هل يوجد مصاصو دماء حقاً ؟ وإن لم يكونوا خالدين أو يختفون في المرايا، فهل سكنوا الظلّ بيننا، يشربون الدم، ويثيرون الرعب ؟
بين الموروث الشعبي وأرشيفات الطب النفسي، وبين المعتقدات القديمة والجرائم المعاصرة، تتكرر حكاية الكائن الذي يتغذى على دماء الآخرين.
بل هناك من يربط هذه الظاهرة بما يُعرف بـ "الماوزائيات" Mosaicism وهي اضطرابات جينية قد تجعل الإنسان يمتلك صفات فيزيولوجية أو سلوكية غريبة، لدرجة أن البعض يظنه "غير بشري".
ولعل ما يزيد الأمر غرابة، أن الكثير من الأساطير السينمائية لها جذور يمكن تتبعها في حوادث واقعية موثّقة.
فيما يلي أبرز وأغرب الحوادث التي سجلها التاريخ لما يمكن تسميته بـ "مصاصي دماء حقيقيين" مرتبة زمنياً:
مصاص دماء ألنويك – إنجلترا (القرن 12)
قبل حوالي 800 عام من أسطورة الكونت دراكولا سجّل المؤرخ ويليام النيوبرجي قصة رجل آثم توفي فجأة بعد سقوطه من سقف القلعة أثناء تجسّسه على زوجته، لكن السكان أكدوا أن الرجل عاد ككائن ميت حي ينشر الطاعون ، نبشوا قبره، فوجدوا جسده منتفخاً بالدم، فقاموا بإحراقه علناً لإيقاف تفشي الوباء، تُعتبر هذه الحادثة من أوائل الروايات التي وثّقت ظاهرة "الريفينانت" Revenant أو "العودة من الموت"، والتي قد تكون ألهمت لاحقاً أساطير مصاصي الدماء في الأدب الأوروبي.
فلاد المخوزِق – رومانيا (القرن 15)
هي القصة الحقيقية للأمير الشهير الذي عُرف بـ فلاد المخوزق" في ترانسلفانيا من رومانيا الحالية ، لقبه كان بـ دراكولا والتي تعني ابن التنين في اللغة الرومانية ، والذي أصبح اسطورة استوحي منها معظم الأعمال الدرامية عن مصاصي الدماء ، عُرف بساديته وبأنّه يغمس الخبز في دماء أعدائه بعد أن يخوزقهم، ورغم أنه لم يُشاهد يشرب الدم حرفياً، فإن سلوكه الدموي والمرعب جعله أحد النماذج التاريخية للـ"مصاص الدماء" السياسي والعنيف. يٌقال أنه مدفون تحت بلاط كنيسة ، إقرأ المزيد عن سيرة الكونت دراكولا .
بيتر بلوغويفيتز – صربيا (1725)
في قرية كيسيلوفا بصربيا، توفي الفلاح بيتر بلوغوجيفيتش، لكن بعد دفنه بدأت سلسلة وفيات غامضة أصابت 9 من السكان خلال أيام. بعض الضحايا قالوا إن بيتر زارهم ليلاً وخنقهم، وزعمت زوجته أنه طلب منها حذاءه بعد موته ! ، وعند نبش قبره، كان جسده بحالة جيدة بشكل غير طبيعي: وجه وردي، فم ملطخ بالدم، وأظافر نمت من جديد. عند طعنه وتفحيم جثته، توقفت الوفيات فجأة ، وثق تلك الحادثة مسؤول نمساوي، وأصبحت واحدة من أولى حالات "الهستيريا الجماعية" حول مصاصي الدماء، وأسهمت في تشكيل الأسطورة التي ألهمت الأدب لاحقاً، مثل رواية دراكولا الشهيرة التي كتبها برام ستوكر ونُشرت عام 1897.
اليوم، تفسر هذه الظواهر بتحلل طبيعي للجثث، لكن في ذلك الزمن، كانت كافية لإشعال الرعب الجماعي.
ميرسي براون – أمريكا (1892)
في ذروة ذعر "مصاصي الدماء" في نيو إنجلاند، وقعت هذه الحادثة في رود آيلاند. كانت عائلة براون تعاني من داء السل، حيث توفيت الابنة ميرسي، وكان شقيقها إدوين يحتضر ، وفي محاولة يائسة للشفاء، تم نبش قبور العائلة لفحص الجثث، حيث بدت جثة ميرسي وكأنها لم تتحلل، ما دفعهم إلى استخراج قلبها، حرقه، وخلطه بالماء ليشربه إدوين على أمل الشفاء ، لكنه توفي بعد شهرين… تاركًا الحكاية ضمن أكثر فصول الجنون المرتبطة بالفولكلور رعباً.
ثقافة مصاصي الدماء الخفية – العصر الحديث
بعيداً عن الصورة النمطية لمصاصي الدماء في الأفلام، هناك مجتمعات حقيقية في العالم اليوم تُعرف نفسها بأنها "مصاصو دماء" ، لكنهم ليسوا قتلة ولا يختبئون في الظلام ، هم أفراد يعتقدون أن تناول كميات صغيرة من الدم البشري ، من متبرعين طوعيين خضعوا لفحوص طبية ، يمنحهم طاقة جسدية ونفسية تساعدهم على الشعور بالحيوية والتوازن.
وعلى جانب آخر، يظهر ما يُعرف بـ "مصاصي الطاقة"، وهم أشخاص يزعمون أنهم يستمدون قوتهم من طاقة الآخرين النفسية أو الروحية، سواء عبر التواصل الجسدي أو التفاعل العاطفي، دائماً بموافقة الطرف الآخر.
هؤلاء لا يؤذون أحداً، ولا يرون أنفسهم مرضى، بل يعيشون بأسلوب حياة فريد، غالباً في الخفاء، خشية التهميش أو الوصم الاجتماعي ، ورغم غرابة هذه الظاهرة في نظر العامة، يسعى أفراد هذه المجتمعات إلى نيل الاعتراف بحقهم في ممارسة نمطهم الخاص من الحياة، دون أن يُصنّفوا باعتلالات نفسية أو انحرافات سلوكية.
ريتشارد ترينتون تشيس – أمريكا (1977-78)
قاتل متسلسل أمريكي، بدأ حياته بقتل الحيوانات وشرب دمائها، معتقداً أن جسده ينهار وأنه بحاجة للدم للبقاء حياً. تطورت حالته إلى فصام وهلاوس قاتلة، فأصبح يقتحم منازل ضحاياه فقط إذا كانت أبوابها غير مقفلة ، إيماناً بخرافة أن ذلك يُعتبر دعوة للدخول، كما في أساطير مصاصي الدماء.
خلال أقل من شهر، قتل ستة أشخاص، بينهم امرأة حامل وأطفال، حيث شرب دماءهم، أكل أعضاءهم، ومارس أفعالاً نيكروفيلية - ممارسات جنسية مع متوفين - في واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الأمريكي الحديث.
ألقت الشرطة القبض عليه في يناير 1978، ووجدت شقته مغطاة بالدماء وأعضاء محفوظة. حُكم عليه بالإعدام، لكنه انتحر بتناول جرعة زائدة من مضادات الاكتئاب داخل زنزانته عام 1980.
تُعد قضيته مثالاً مرعباً على خطورة إهمال الأمراض النفسية، وتجسيداً حياً لأسطورة مصاص الدماء في قالب إنساني مأساوي.
دانيل ومانويلا رودا – ألمانيا (2001)
في مدينة "فيتن" الألمانية، أقدم الزوجان دانيل ومانويلا رودا على قتل صديقهما فرانك هاكنرت في جريمة مروعة. بعد استدراجه إلى منزلهما، ضرباه بالمطرقة 66 مرة، ثم نحتا نجمة خماسية على صدره، وشربا من دمه، مدّعين أن الشيطان أمرهما بذلك.
كان المنزل مليئاً برموز شيطانية، ونعش حقيقي تنام فيه مانويلا. وكشفت التحقيقات أن الاثنين مهووسان بثقافة مصاصي الدماء والسحر الأسود ، واعتبرتهما المحكمة مختلَّان نفسياً، وأُودعا في مؤسسات عقلية مشددة، وحُكم على دانيل بالسجن 15 سنة، ومانويلا بـ13 سنة.
لاحقاً، أُفرج عن مانويلا بعد انتهاء المدة، بينما ظل دانيل محتجزاً لرفضه العلاج، وأُثيرت حوله تهمة جديدة بمحاولة قتل زوجته السابقة من داخل السجن.
حادثة المستشفى في هونغ كونغ (2007)
في عام 2007، وقعت حادثة غريبة في مستشفى يان تشاي Yan Chai Hospital في هونغ كونغ، عندما دخل رجل يبلغ من العمر 29 عاماً المستشفى لتلقي العلاج من إصابة في إصبع قدمه. أثناء انتظاره، وبينما كان في حالة سُكر شديد، تسلل إلى منطقة تخزين العينات الطبية وسرق ثلاث قوارير تحتوي على عينات دم. ثم قام بفتحها وشرب محتوياتها في مكان الحادث.
بعد فترة وجيزة، شعر الرجل بالغثيان وتقيأ الدم الذي شربه. تم القبض عليه لاحقاً، وأثناء استجوابه، صرح للشرطة بأنه كان "في حالة سُكر شديد وعطش شديد"، مما دفعه إلى شرب الدم.
أثارت هذه الحادثة جدلاً واسعاً في وسائل الإعلام المحلية، حيث سلطت الضوء على قضايا تتعلق بالصحة النفسية، وتعاطي الكحول، وأمن المستشفيات. كما أعادت إلى الأذهان قصصاً عن "مصاصي الدماء" في العصر الحديث، وإن كانت هذه الحالة ناتجة عن اضطراب نفسي وسلوك غير معتاد بدلاً من كونها جزءاً من طقوس أو معتقدات.
طائفة زيمبابوي (2013)
بعد حادثة دهس مفجعة لأربعة أطفال، شوهدت مجموعة غامضة ترتدي الأسود وهي تتغذى على دماء الضحايا ، تم القبض عليهم بواسطة صياد سحرة محلي، وعُثر في منازلهم على بابون وكائنات غريبة. وقد نُسبت الطقوس إلى معتقدات سحرية دموية غير مفهومة.
في فبراير 2013، شهدت قرية نيتا في منطقة مبيرينغوا من زمبابوي حادثة مروعة أثارت الذعر والدهشة بين السكان المحليين. بعد وقوع حادث دهس مأساوي أودى بحياة أربعة أطفال، ظهرت مجموعة من الأشخاص يرتدون أردية سوداء في موقع الحادث، وبدأوا في جمع وشرب دماء الضحايا، وفقًا لشهادات شهود عيان.
أثارت هذه التصرفات الغريبة صدمة كبيرة بين السكان، الذين اشتبهوا في أن هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى طائفة شيطانية. استجابةً لذلك، دعا الزعيم المحلي، الزعيم بيفوتي، إلى اجتماع طارئ، وقرر استدعاء "تسيكاموتاندا" (صياد السحرة)، وهو شخص يُعتقد أنه يمتلك القدرة على كشف الأشخاص المتورطين في الممارسات السحرية. تم استدعاء صياد السحرة المعروف باسم باندا، الذي نجح في تحديد هوية بعض أفراد الطائفة وتسليمهم إلى السلطات المحلية.
لدى مداهمة منازل المشتبه بهم، تم العثور على حيوانات غريبة، بما في ذلك قرود البابون، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الدماء. أثار هذا الاكتشاف المزيد من القلق بين السكان، الذين ربطوا هذه الممارسات بمعتقدات سحرية دموية غير مفهومة.
توماس غو – بريطانيا (2015)
شاب بريطاني في العشرين من عمره جرح ذراع صديقه باستخدام شفرة حلاقة، وجمع الدم في كوب ثم شربه، مدعياً أنه بحاجة إلى الدم للبقاء على قيد الحياة. بعد ذلك، تقيأ الدم الذي شربه، وأُدين بتهمة إحداث جرح بقصد التسبب في أذى بدني جسيم، وحُكم عليه بالسجن لمدة تقارب سبع سنوات في مؤسسة للشباب.
هل ما زال مصاصو الدماء بيننا ؟
تتنوع التفسيرات بين من يعزو هذه الحالات إلى الجنون والانفصام، ومن يُرجعها إلى اضطرابات وراثية كـ"الماوزائيات"، ومن يعتبرها صدى لأساطير قديمة تسللت إلى اللاوعي الجمعي.
لكن المؤكد أن بعض البشر، عبر العصور، تصرفوا كما لو أن لعنة مصاصي الدماء تجري في عروقهم.
السؤال ليس إن كانوا خياليين، بل: ما الذي يجعل البعض يسلك طريقاً مظلماً يملؤه الدم، الطقوس، والانعزال عن المجتمع ؟
وهل يكمن التفسير في العقل، أم في الروح، أم في شيء ثالث... لم يُكتشف بعد ؟
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .