دور العقل في الماورائيات 12 : كرايبتومنسيا أو الذاكرة الخفية

كيف تؤثر الثقافة والمعتقد على تفسيرنا للظواهر الغامضة

إعداد : كمال غزال

في عالم النفس، لا تقل الظواهر غرابة عن تلك التي نراها في عالم الماورائيات. ومن بين أكثر الحالات النفسية إثارة للدهشة والتأمل، تبرز "كرايبتومنسيا" Cryptomnesia أو ما يُعرف بـ "الذاكرة الخفية" وهي ظاهرة غريبة يعتقد فيها الشخص أنه يبتكر فكرة جديدة أو يعيش تجربة فريدة، بينما هو في الحقيقة يستعيد شيئاً سبق له أن عرفه أو سمعه، لكنه نسي مصدره الأصلي.

قد يبدو هذا مجرد اضطراب في التذكر، لكن المثير أن هذه الحالة تقف عند حدود شديدة الغموض بين النفس والعقل، وتقدم تفسيراً معقولاً لبعض الظواهر التي طالما نُسبت إلى قوى خارقة، كالتخاطر، التقمص، وحتى الاستبصار.

ما هي كرايبتومنسيا ؟

"كرايبتومنسيا" كلمة يونانية الأصل تعني "الذاكرة الخفية"، وتصف حالة يستعيد فيها الإنسان معلومة أو تجربة من الماضي دون أن يتذكر أنه واجهها من قبل. يشعر الشخص بأنها فكرة أو تجربة جديدة، في حين أنها منسوخة من تجربة قديمة خُزنت في اللاوعي.

مثال شائع

كاتب يكتب نصاً أدبياً يعتقد أنه إبداعه الخالص، ثم يتبين لاحقاً أنه نسخة شبه حرفية من كتاب قرأه في طفولته. لم يتعمد السرقة، بل كان يظن بصدق أنه يكتب من وحي خياله.

كيف تحدث كرايبتومنسيا على مستوى الدماغ ؟

يُعتقد أن كرايبتومنسيا تنشأ من فصل بين مصدر الذاكرة والمعلومة نفسها: يستعيد الدماغ المعلومات، لكنه يفشل في تذكُّر مصدرها ، هذا يشير إلى خلل في آليات ما يُعرف بـ "التمييز بين المصدر" source monitoring، وهي وظيفة معرفية متقدمة تعمل على تحديد متى وأين وكيف حصلت على معلومة ما ، يمكن أن تؤثر على هذه القدرة عوامل مثل الإجهاد النفسي، قلة النوم، التنويم المغناطيسي، أو اضطرابات الهوية والانفصام ، مما يسمح للمعلومة بالعودة إلى الوعي على أنها "إلهام خارجي".

الارتباط بالماورائيات

ظاهرة كرايبتومنسيا قد تقدم تفسيراً نفسياً لبعض الحالات التي تُفسَّر عادة تفسيراً ماورائياً أو روحياً، منها:

التقمص (الذاكرة من حياة سابقة)

طفل صغير يروي تفاصيل دقيقة عن حياة رجل ميت منذ عقود في قرية لم يزرها قط ، قد تكون تلك التفاصيل مستمدة من رواية سمعها في صغره، أو برنامج تلفزيوني، واحتفظ بها اللاوعي، ثم عادت للظهور عبر كرايبتومنسيا.

التخاطر أو الحدس المفاجئ

شخص "يخمن" كلمات شخص آخر أو يتنبأ بحوادث صغيرة بدقة ، يكون هذا في بعض الحالات بسبب معلومات التقطها لا شعورياً في وقت سابق، واستعادها بطريقة مشوشة كحدس أو تخاطر.

الكتابة التلقائية Automatic Writing

كتّاب أو وسطاء روحانيون يكتبون نصوصاً يزعمون أنها جاءت من كيان خارجي (روح أو كائن فوق طبيعي) ، قد تكون النصوص مأخوذة من مصادر قرأوها ونسوها، لكن عقلهم اللاواعي أعاد إنتاجها.

الإلهام الفني أو العلمي المفاجئ

مخترع يدّعي أن فكرة اختراعه جاءته في الحلم أو بشكل مفاجئ ، قد تكون نتيجة عملية طويلة من التفكير والقراءة نسِيَ بداياتها، وظهرت النتيجة على شكل "وحي".

لماذا نخلط بين كرايبتومنسيا والماورائيات ؟

الدماغ البشري يحب القصص والمعاني. وعندما نواجه ظاهرة غريبة، نميل إلى تفسيرات تمنحها "هالة" من الغموض أو الرسالة، بدل أن نقبل بتفسير علمي جاف. ومع ضعف الذاكرة ومرونة الإدراك، يصبح من السهل سوء تأويل الظواهر النفسية على أنها خارقة.

هل كرايبتومنسيا ظاهرة مرضية ؟

ليست بالضرورة مرضية، لكنها تظهر أحياناً في اضطراب الهوية الانفصامي وأثناء التنويم المغناطيسي وعند استخدام مواد تؤثر على الوعي أو في حالات التوتر والقلق المعرفي ، لكنها قد تحدث أيضاً عند الأشخاص الأصحاء، خصوصاً أولئك المنغمسين في القراءة أو الإنتاج الإبداعي.

في الختام ، كرايبتومنسيا تكشف لنا عن عالم خفي في عقولنا، حيث تختلط الذاكرة بالخيال، والواقع بالمجهول. وهي تذكرنا بأن بعض الظواهر التي تبدو ماورائية قد تكون مجرد خدعة أنيقة من الذاكرة ، ليس بالضرورة أن يكون كل غامض خارقاً، فقد يكون تفسيره كامناً في أعمق طبقات وعينا ، ومع ذلك لا يجب أن نستبعد احتمالية أن ما يُفسر على أنه كرايبتومنسيا، قد يكون في بعض الحالات غموضاً حقيقياً لم يحل بعد. وهنا يبقى السؤال معلقاً بين العلم والماورائيات... أيهما يحتضن الحقيقة ؟