![]() |
إعداد : كمال غزال |
منذ فجر التاريخ، لم تكن علاقتنا بالأشياء المادية مجرد استخدام أو امتلاك؛ بل كانت علاقة عاطفية عميقة، مليئة بالحنين والذكريات والرموز. نحن لا نرى في خاتم الزواج مجرد حلية، ولا في السيارة القديمة مجرد وسيلة نقل ، بل نحمّلها طبقات من المعاني، وكأنها قطع من أرواحنا تعيش خارج أجسادنا.
لكن… ماذا لو كانت هذه الأشياء تحمل شيئاً أبعد من الذكرى ؟ ماذا لو كانت تختزن طاقتنا ؟ ماذا لو أصبح فقدانها جرحاً داخلياً ؟ وماذا لو كان بعضها يحمل بصمة الآخر… أو لعنة ؟
لكن… ماذا لو كانت هذه الأشياء تحمل شيئاً أبعد من الذكرى ؟ ماذا لو كانت تختزن طاقتنا ؟ ماذا لو أصبح فقدانها جرحاً داخلياً ؟ وماذا لو كان بعضها يحمل بصمة الآخر… أو لعنة ؟
في هذا المقال، نغوص معاً في رحلة بانورامية عبر عالم الأشياء العزيزة، الأساطير المرتبطة بوعيها، فكرة حنينها إلينا، وتجارب البشر مع وراثتها، ومع قدرات غامضة مثل قراءة ذاكرتها، وحتى مواجهة تلك الأشياء التي قيل إنها تحمل لعنات شريرة لا تُمحى.
الذاكرة العاطفية في الأشياء
علم النفس يرى أن الأشياء ليست ذات قيمة بحد ذاتها، بل بالقصة التي نحملها عنها. عندما نفقد شيئاً نحبه سواء بالسرقة، الضياع، أو حتى البيع القسري نشعر أحياناً بفقدان جزء من أنفسنا، لأننا أسقطنا عليه جزءاً من هويتنا.
فالصورة القديمة ليست ورقاً بل لحظة مجمدة ، ومعطف شخص راحل ليس قماشاً بل رائحة، دفء، حضور غائب ، وخاتم الزواج القديم ليس معدناً بل هو عهد وحنين وندبة داخلية.
فقدان الأشياء العزيزة
عندما نفقد غرضاً عزيزاً سواء بالضياع أو السرقة أو حتى التلف ، لا نشعر فقط بأننا فقدنا شيئاً مادياً، بل كأننا فقدنا امتداداً لذاتنا ، علم النفس يفسّر ذلك بأننا نبني ارتباطاً عاطفياً مع الأشياء، بحيث تصبح جزءاً من هويتنا وذكرياتنا، وعندما تختفي نشعر بما يُسمى :
- الحزن الرمزي Symbolic Grief: كأن الغرض يمثّل شخصاً أو مرحلة من حياتنا.
- الإحساس بالفراغ: وكأن مساحة ما داخلنا أصبحت فارغة أو مبتورة.
- مشاعر الذنب أو الندم: لماذا لم أحافظ عليه ؟ لماذا لم أكن أكثر انتباهاً ؟
من الناحية الماورائية، يذهب البعض إلى أبعد من ذلك:
- يُقال إن فقدان غرض عزيز قد يفتح " فراغاً طاقياً " في هالتنا الشخصية، مما يجعلنا أكثر عرضة للشعور بالحزن أو الضعف.
- في بعض المعتقدات، يُنظر إلى الفقدان كإشارة كونية أو اختبار روحي: هل نتعلق بالمادة أم نستطيع التخلي عنها ؟ هل نستطيع إعادة بناء هويتنا من دونها ؟
هناك أيضاً من يؤمن بأن الأشياء العزيزة تحمل جزءاً من روحنا، وفقدانها يجعلنا نشعر وكأن جزءاً صغيراً من روحنا تاه في العالم.
خاتم الزواج المفقود
هناك الكثير من القصص الواقعية (موثقة في دراسات نفسية وشهادات شخصية) عن أشخاص فقدوا خاتم زواجهم وشعروا وكأن علاقتهم الزوجية اهتزت ، لماذا ؟
ليس لأن الخاتم يحمل قوة خارقة، بل لأنه رمز. عند فقدانه، يبدأ الشخص بالشعور بالذنب: " هل أنا لا أقدّر زواجي ؟ " أو بالخوف: " هل هذا فأل سيئ ؟ ".
أحياناً الطرف الآخر (الزوج أو الزوجة) يشعر بالخذلان: " كيف تفقد شيئاً يرمز لحبنا ؟ " ، وفي إحدى التجارب الواقعية فقد رجل أمريكي خاتم زواجه خلال رحلة بحرية، وبعدها بشهور بدأ يشعر بأن علاقته مع زوجته تنهار ببطء، وكأن الخاتم كان رابطاً مادياً يربطهما معاً.
في علم النفس، هذا يُسمى أثر الرمز ، أي تأثير رمزية الأشياء على مشاعرنا وسلوكنا.
في الفلكلور، يُقال أحياناً إن فقدان خاتم الزواج يجلب النحس أو الفراق إن لم يُسترجَع بسرعة.
بيع السيارة العزيزة
كثير من الناس يرتبطون بسياراتهم القديمة عاطفياً، لأنها رافقتهم في مراحل حياتية مهمة (شبابهم، رحلاتهم، حتى لحظاتهم الحزينة). عندما يُضطر الشخص لبيعها سواء بسبب المال أو الأعطال أو القيود العائلية يشعر وكأنه باع جزءاً من تاريخه الشخصي.
في بعض الحالات، يُعاني الشخص من حزن الفقدان: يبقى يتصفح صورها القديمة، يتذكر صوت المحرّك، بل وحتى يشعر بأنه خان نفسه.
من الناحية الماورائية، هناك من يعتقد أن هذه الأشياء تحمل "بصمة" عاطفية، وفقدانها يترك أثراً طاقياً يحتاج للشفاء منه.
أمثلة أخرى:
- شخص يفقد دمية طفولته فيشعر بفقدان الأمان.
- امرأة تفقد عقداً من والدتها الراحلة فتشعر وكأنها فقدت رابطها الأخير مع الأم.
- رجل يبيع منزله القديم وينتقل إلى مدينة جديدة، لكنه يُصاب بالاكتئاب لأنه فقد ذكرياته المرتبطة بالمكان.
الأشياء التي تكتسب وعياً : أسطورة تسوكوموگامي اليابانية
في الفلكلور الياباني، هناك أسطورة قديمة تُسمى تسوكوموگامي Tsukumogami تقول إن الأشياء المنزلية كالمكانس، الصحون، الفوانيس إذا تجاوز عمرها مئة عام، فإنها تكتسب روحاً واعية.
هذه الأشياء تصبح كائنات يمكنها الغضب، الفرح، الانتقام أو حتى مساعدة البشر. لذلك، كان اليابانيون القدامى يُجرون طقوساً خاصة لتوديع الأشياء القديمة، بدلاً من رميها بلا احترام.
هل تحنّ الأشياء لأصحابها ؟
نعلم أن الأشياء الجامدة مثل السيارة أو الخاتم أو الساعة لا تملك وعياً أو مشاعر، وبالتالي لا يمكنها أن "تحنّ" لصاحبها. لكنها في الماورائيات والفولكلور والخيال الشعبي، تصبح شيئًا آخر تماماً حيث يُعتقد أن الأشياء التي عاشت طويلًا مع مالكها تشبع بروحه وطاقته، وقد "ترفض" أصحابها الجدد أو تتعطل معهم.
بحسب تلك الثقافات تُشبَع الأشياء بطاقة عاطفية كأنها تختزن شيئاً من بصمته، من لمسه، من حزنه وفرحه. عندما تُنتزع فجأة من هذا السياق، يصبح لديها نوع من "الذاكرة العاطفية" التي تُشعّ نحو الخارج.
في اليابان مثلاً، فكرة تسوكوموگامي تفترض أن الأشياء القديمة (حتى السيارة القديمة !) قد تكتسب روحاً بعد سنوات طويلة، وتحنّ لمن لمسها ورعاها.
في القصص الغربية، هناك سيارات توصف بأنها "وفيّة" لأصحابها، حتى أن البعض يزعم أنها تتعطّل عمداً مع أصحابها الجدد أو لا تعمل إلا بأيديهم.
حتى في رواياتنا الشعبية، كثيراً ما نسمع عن الأشياء التي “تأبى” أن تُباع أو تُهدى، كأنها مشدودة لمالكها الأصلي.
هل هناك تفسيرات واقعية ؟
- الإسقاط النفسي: المالك السابق يشعر بالفقد، فيبدأ بتفسير أعطال الغرض أو "رفضه" لأصحابه الجدد كنوع من الوفاء له.
- الارتباط العاطفي: ربما تكون طريقة العقل اللاواعي في التشبث بالذكريات، بإضفاء معاني حنونة على أشياء جامدة.
- الصدف والتفسير الماورائي: بعض الأحداث العشوائية (مثل تعطل سيارة مع المالك الجديد) تُفسَّر باعتبارها "حنيناً"، بينما هي في الحقيقة مجرد حظ أو صدفة.
وراثة الأشياء: حمل ذاكرة الآخرين
حين نرث شيئاُ من شخص آخر، خصوصاً من المتوفين، نرث معه إحساساً غريباُ: هل هذا الشيء لي فعلًا ؟ أم أنا مجرد حامل لذكرى شخص آخر ؟ كثيرون يصفون إحساساً بثقل عاطفي حين يرتدون مجوهرات الجدة، أو يعيشون في بيت قديم ورثوه من عائلة أخرى ، إنه شعور بأن الشيء لم يُخلق لهم، وأنه يحمل تاريخاً لم يعيشوه بأنفسهم.
وفي احدى التجارب الواقعية ورثت شابة فرنسية ساعة جيب من جدها، لكنها كانت تشعر بضيق شديد كلما ارتدتها، وتراودها كوابيس عن حوادث لم تمر بها، كأنها تحمل ذاكرة غريبة داخلها.
قراءة ذاكرة الأشياء (الحاسة الزرقاء)
في بعض الممارسات الروحانية الحديثة، يُعتقد أن الوسطاء الروحانيين يمتلكون الحاسة الزرقاء Psychometry وهي القدرة على لمس غرض معين والشعور بطاقة صاحبه، وحتى رؤية لمحات من ماضيه ، أحيانًا تُستخدم هذه الممارسة للمساعدة في حل قضايا جنائية غامضة.
بعض المحققين في جرائم الاختفاء استعانوا بوسطاء للمساعدة، حيث يُمسك الوسيط بشيء يخص المفقود (ساعة، قطعة ملابس) ويحاول استشعار ما مرّ به أو إلى أين ذهب.
وفي إحدى التجارب الواقعية ساعد وسيط روحاني في البرازيل الشرطة في قضية اختفاء طفل عبر لمس قبعته، وادّعى أنه شعر بموقع الجثة ، وقد تبيّن لاحقاً أن الموقع كان قريباً جدًا مما قال.
الأشياء التي تحمل لعنات
في كل ثقافة تقريباً نجد قصصاً عن أشياء تحمل لعنة أو طاقة سلبية تصيب من يقتنيها، هذه الأشياء قد تكون مجوهرات، لوحات، دمى، أو حتى قطع أثاث. لكنها جميعاً تشترك في شيء واحد: سلسلة من المصائب الغريبة التي تلاحق أصحابها الجدد وهناك أمثلة مشهورة:
- ماسة الأمل Hope Diamond: جوهرة زرقاء شهيرة يقال إنها جلبت الحظ السيئ والموت لكل من امتلكها، من الملوك الفرنسيين إلى أصحابها في العصر الحديث ، إقرأ عن مجوهرات ملعونة.
- لوحة الطفل الباكي The Crying Boy: لوحات منتشرة في أوروبا، ارتبطت بحوادث حرائق غامضة في المنازل التي تُعلّق فيها، مع تكرار نجاة اللوحة وحدها من الحريق.
- دمية أنابيل: في الولايات المتحدة، دمية قديمة محشوة بالقماش يزعم أنها تسببت في ظواهر مخيفة داخل منزل عائلة اقتنتها، لتصبح لاحقًا مصدر إلهام لسلسلة أفلام رعب شهيرة. إقرأ عن دمى مسكونة.
- كرسي بوسبي الملعون: في إنجلترا، يُقال إن أي شخص يجلس على هذا الكرسي القديم سيموت خلال وقت قصير.
- وفي اليابان عائلة تخلّصت من دمية قديمة، لكنها لاحظت أن أصواتاً غريبة بدأت تُسمع ليلاً في البيت، فاضطروا لاسترجاعها وإجراء طقوس وداع.
لماذا تحمل هذه الأشياء لعنة ؟
هناك تفسيرات متنوعة، نذكر منها:
- التفسير النفسي: الناس يسقطون مخاوفهم وعواطفهم على الأشياء. إذا كانوا يؤمنون بأن شيئاً ملعوناً، فإن أي مصيبة تحدث لاحقاً تُربط به فوراً.
- التفسير الطاقي: هناك من يعتقد أن الأشياء تُخزّن ذبذبات عاطفية قوية (خصوصاً من الغضب، الألم، أو المآسي)، وتُعيد بثّها على مقتنيها الجدد.
- التفسير الروحي: بعض الثقافات ترى أن الأرواح أو الطاقات العالقة ترتبط بمكان أو شيء معيّن، خصوصاً لو شهد هذا الشيء حدثاً مأساوياً أو صدمة قوية، فيصبح كأنه حامل للذكرى الملعونة.
- التفسير الاجتماعي: القصص تتضخم مع الزمن، وتتحول إلى أساطير، بحيث يبدأ الناس في رؤية مصادفات عادية كأدلة على لعنة، مما يعزز شهرة الشيء ككائن خطير.
وختاماً ، سواء كنّا نؤمن بالماورائيات أو نميل إلى التفسير النفسي والعلمي، يبقى شيء واحد مؤكد: الأشياء ليست صامتة تماماً. نحن من نمنحها أصواتاً، معاني، وهويات. نحن من نصنع منها امتداداً لحياتنا وذاكرتنا. وحين نفقدها، نشعر أننا فقدنا شظية من أنفسنا؛ وحين نرثها، نحمل بين أيدينا وزر تاريخ لم نعشه. وربما، فقط ربما… في زاوية من زوايا الماوراء، هناك شيء ما ينظر إلينا، يتذكرنا، ويحنّ إلينا كما نحن نحِنّ إليه.
هل فكرت يوماً في الأشياء من حولك بهذه الطريقة ؟ وماذا ستفعل غداً عندما تلمس ساعتك القديمة، أو تنظر إلى تلك الدمية القديمة فوق الرف ؟
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .