![]() |
إعداد : كمال غزال |
الرقية الشرعية هي أحد أقدم أشكال العلاج الروحي في الإسلام، وُضعت لتكون سلاح المؤمن في مواجهة ما يعجز الطب عن تفسيره من علل روحية ونفسية. وهي ليست طقساً غامضاً ولا ممارسة سحرية، بل تلاوة آيات من القرآن الكريم وأدعية مأثورة عن النبي ﷺ تُتلى بنية الشفاء والتحصين من الحسد والعين والسحر والمس الشيطاني وسائر الأذى غير المادي.
وقد أقرها الشرع الحكيم بشرط أن تكون بكلام الله أو بما يُعرف معناه من الدعاء، وألا تتضمن شركاً أو استعانة بغير الله، مع اليقين أن الرقية سببٌ، والشفاء بيد الله وحده. قال النبي ﷺ: « اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك » ، ومن هذا الأصل النبوي تأسست علوم وتجارب واسعة في عالم الرقية الشرعية، امتدت من زمن الصحابة إلى عصرنا الحديث.
أنواع الرقية ومجالاتها
1- الرقية من العين والحسد
العين والحسد من أكثر ما يُصاب به الناس في مجتمعاتنا، وهو أثر نفسي خفي من نظرة تحمل نية الأذى أو الإعجاب الزائد دون بركة. الرقية هنا تُقرأ بنية التحصين ورفع الضرر، وتشمل سور الفاتحة والإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي، مع النفث الخفيف على المريض أو على ماء يُغتسل به.
كما يستحب أن يُقال الدعاء النبوي: « أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ».
وفي حال عُرف الشخص الذي أصاب بالعين، يُؤخذ من أثره ماء وضوئه ويُغتسل به المصاب، كما فعل النبي ﷺ مع الصحابي سهل بن حنيف حين أصابته عين عامر بن ربيعة.
2- الرقية من السحر والسحر السفلي
السحر في المفهوم الإسلامي عمل محرم يتقرب به الساحر إلى الشياطين لإيذاء الناس، ويُعد من الكبائر الموجبة للعقوبة. تختلف أنواعه بين السحر التفريقي (لتفريق الأزواج)، وسحر التعطيل، وسحر المرض أو الهوس.
أما السحر السفلي أو الأسود فهو أشدها خطراً، ويعتمد على طقوس كفرية واسترضاء للشياطين بالنجاسات والقرابين ، علاج السحر لا يكون إلا بالقرآن، وخاصة بآيات إبطال السحر الواردة في سور البقرة والأعراف ويونس وطه.
يُقرأ القرآن على المريض أو على ماء يُشرب ويُغتسل به، ويمكن إضافة أوراق السدر أو الملح الخشن. كما يُستحب دهن الجسد بزيت الزيتون المقروء عليه آيات الرقية، والاستمرار في ذلك حتى تختفي الأعراض.
ولا يجوز أبداً اللجوء إلى السحرة لفك السحر بسحر مثله؛ فذلك كفر صريح. الشفاء الحقيقي يكون بالعودة إلى الله، والصبر واليقين، والبعد عن كل وسيلة محرمة.
3- الرقية من المس الشيطاني
المس هو تأثير روحي من الجن على الإنسان، وقد يكون بسبب السحر، أو بسبب تعدي أحدهم، أو بدافع العشق. يرى جمهور العلماء إمكان تلبس الجن بالإنسان، مستدلين بآيات وأحاديث صحيحة.
في حالات المس، تُتلى الرقية بصوت مرتفع في جو مفعم بالذكر والإيمان، مع قراءة سور الصافات والجن والبقرة، وتكرار آيات العذاب. كما يُكثر من الأذان والتهليل والاستعاذة، حيث يتم تذكير الجني إن نطق بعذاب الله وعاقبة الظلم.
وينبغي للراقي أن يتحلى بالحكمة، وألا يلجأ إلى الضرب المبرح أو العنف الجسدي، لأن الغاية العلاج لا الانتقام. وأهم ما في الأمر هو تحصين المريض نفسه بالذكر والطهارة والالتزام بالصلاة والأذكار اليومية، فكلما زاد قربه من الله ضَعُف سلطان الشيطان عليه.
الرقية من مس الجن العاشق
يُعد ما يُعرف بـ“الجن العاشق” من أكثر ما يُثار في جلسات الرقية. ويُقصد به تعلق جني بإنسية بدافع العشق أو الغيرة، فيتسبب لها بأحلام مزعجة واضطرابات نفسية أو عزوف عن الزواج.
علاج هذه الحالات يكون تماماً كعلاج المس العادي: بالرقية الشرعية والالتزام بالطهارة والذكر، مع الابتعاد عن الخلوة والعزلة، والمواظبة على أذكار النوم وقراءة سورة البقرة في البيت.
ويُستحب للمصابة أن ترقي نفسها بنفسها، أو تُرقى من قبل امرأة صالحة، أو أحد محارمها. أما الرقية عند الرجال الأجانب فتُشترط فيها ضوابط دقيقة: عدم الخلوة، عدم اللمس، ووجود محرم حاضر.
وقد شدد العلماء على أن من يدعي أنه يُخرج الجن بلمس المرأة أو بممارسة الفاحشة معها فهو كاذب فاجر. فالعلاج بالقرآن لا يمكن أن يتضمن معصية لله. وكل من يفعل ذلك تحت غطاء الرقية هو مجرم يجب فضحه ومحاسبته.
أدوات الرقية المأثورة
رغم أن الأصل في الرقية هو الكلمة والنية، فإن العلماء أجازوا استخدام وسائل مادية معينة لتقوية الأثر الروحي، منها:
الماء المقروء عليه
يُقرأ فيه القرآن ثم يُشرب أو يُغتسل به، مع الحرص على ألا يُسكب في موضع نجس. يُستحب استخدام ماء زمزم أو ماء طاهر صاف.
زيت الزيتون
يُقرأ عليه القرآن ثم يُدهن به الجسد صباحاً ومساء. نفعه ظاهر في حالات المس أو الحسد، وهو مذكور في الحديث الشريف: « كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ».
ورق السدر الأخضر
تُدق سبع ورقات وتُخلط بماء يُقرأ فيه القرآن، ثم يُشرب بعضه ويُغتسل بالباقي، وقد ثبت نفعه في فك السحر.
المسك والروائح الطيبة
لأن الشياطين تنفر من الطيب، فيُنصح باستخدام المسك الأبيض أو الأسود بعد القراءة عليه، خصوصاً في حالات الجن العاشق.
البخور الطيب
لا يُعد علاجاً بحد ذاته، لكنه يُستخدم أحياناً لتطييب الجو أثناء الرقية، دون الاعتقاد بخاصية سحرية فيه.
أما استخدام الطلاسم أو الدماء أو أنواع بخور مجهولة المصدر فهو من عمل السحرة لا الرقاة الشرعيين.
البعد النفسي والعلمي في نجاح الرقية
لا تعمل الرقية الشرعية بمعزل عن النفس البشرية. فحين يُصاب المرء بالاضطراب أو القلق أو الصدمة، فإن الإيمان والذكر يعملان كدواء نفسي فعال.
من الناحية العلمية، ثبت أن تأثير الإيحاء والإيمان بالشفاء يمكن أن يطلق تفاعلات عصبية وهرمونية تعزز مناعة الجسد وتخفض التوتر. سماع القرآن بصوت خاشع يُنظم إيقاع التنفس ويُحدث حالة استرخاء مشابهة للتنويم العلاجي، مما يخفف الألم ويهدئ الأعصاب.
كما أن جلسة الرقية نفسها توفر دعماً اجتماعياً ونفسياً؛ فالمريض يشعر أنه ليس وحده، وأن هناك من يهتم بحاله ويدعو له. وهذه التجربة تشحن المريض بطاقة إيجابية تسهم في التعافي.
ويُرجح الأطباء النفسيون أن بعض الحالات التي تشفى بالرقية لم تكن في الأصل تلبساً حقيقياً، بل اضطرابات نفسية تجسدت بأعراض جسدية. فكان القرآن بمثابة علاج معرفي روحي يُعيد التوازن للإنسان بين العقل والإيمان.
الانحرافات والاستغلال باسم الرقية
مع اتساع الحاجة للرقية في المجتمعات، ظهر من استغلها طريقاً للكسب أو الشهوة. فبعض الرقاة يخلطون بين الرقية والسحر، فيستخدمون طلاسم ويطلبون أسماء الأمهات ويبيعون المياه والزيوت بأسعار خيالية.
الأخطر هو الاستغلال الجنسي للنساء تحت ذريعة “الجن العاشق” أو “العلاج الخاص”. وقد وثقت وسائل الإعلام العربية والعالمية عشرات القضايا لنساء تعرضن للتحرش أو الاغتصاب من قِبل من يسمون أنفسهم “رقاة”.
تبدأ الحيلة غالباً بالتشخيص الكاذب: “أنت ممسوسة بجن عاشق”، ثم يتدرج المجرم في طلب خلوة ولمس، وربما انتهى الأمر باعتداء صريح. وهنا يتحول العلاج إلى جريمة بشعة تُرتكب باسم الدين.
لذلك يجب أن يكون وعي المرأة والمجتمع خط الدفاع الأول. لا يجوز أن تذهب امرأة بمفردها إلى راقٍ، ويجب أن يكون هناك محرم أو رفقة نسائية. كما ينبغي أن تكون الرقية في مكان عام معروف، لا في غرف مغلقة.
وعلى السلطات الشرعية والمدنية تنظيم مهنة الرقية ومحاسبة كل من يسيء استخدامها، فالدين لا يقرّ الاستغلال باسم القرآن.
الجمع بين الرقية والطب النفسي الحديث
من الخطأ الشائع أن يُنظر إلى الرقية كبديل عن الطب. فالشرع أمر بالتداوي كما أمر بالذكر والدعاء. العقل والروح متكاملان؛ وكما يحتاج الجسد إلى الطبيب، تحتاج النفس إلى الإيمان والسكينة.
في بعض الحالات قد يُشفى المريض بالرقية وحدها، وفي حالات أخرى يحتاج إلى علاج طبي أو نفسي موازٍ. فالاكتئاب والوسواس والهلع اضطرابات تحتاج لأدوية وعلاج سلوكي، ولكن الرقية تساعد على تخفيف القلق وتقوية الصبر والأمل.
كذلك الأمراض العضوية الجسيمة لا يُعالجها القرآن وحده، بل تُعالج في المستشفى مع المواظبة على الدعاء والرقية لتحسين الاستجابة العلاجية.
التوازن هو الطريق الأمثل: نأخذ بالأسباب كلها، المادية والروحية، ونؤمن أن الله هو الشافي عبر ما شاء من الوسائل.
وفي الختام ، الرقية الشرعية علاج روحي رباني، فيها الطمأنينة والسكينة، وفيها التذكير بأن الشفاء بيد الله وحده. وهي أيضاً انعكاس للتكامل بين الدين والعلم؛ فكما تُداوي الجسد بالأدوية، تُداوي الرقية النفس والروح بالقرآن.
غير أن هذا الباب الشريف يحتاج إلى علم وتقوى، لا إلى جهل واستغلال. فكم من راقٍ مخلص كان سبباً في شفاء مريض، وكم من دجال جعلها ستاراً لابتزاز النفوس والأموال.
لذلك على المسلم أن يحسن الفهم والتمييز ، يستعمل الرقية في موضعها، ويستعين بالأطباء في موضعهم، ويُبقي قلبه معلقاً بالله في كل حال.
إنها تجربة تجمع بين الإيمان والعقل، بين الدعاء والدواء، بين الطب والروح، وفي هذا الجمع تكمن حكمة الإسلام في تحقيق الشفاء الشامل للإنسان.
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .