![]() |
إعداد : كمال غزال |
معنى العفريت وأصله في اللغة والقرآن
في اللغة العربية، “العِفريت” مأخوذ من الفَرَت والعَفر، أي شدّة المكر والدهاء. وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس، حين قال أحد الجن:
"قال عِفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك"
(سورة النمل، 39)
هنا يظهر العفريت ككائن قوي سريع الحركة، يملك قدرات خارقة تفوق باقي الجن، لكنه في الوقت نفسه يخضع لأمر نبي الله سليمان، ما يشير إلى أن قوته ليست مطلقة بل محدودة بإرادة الله.
أصناف الجن وموقع العفريت بينها
تتعدد أصناف الجن في المرويات التراثية:
- المارد: الجنّي العملاق الجبّار الذي يتّصف بالقوة البدنية والتمرّد.
- العفريت: يتصف بالدهاء والمكر والقوة المتوازنة، يجمع بين الذكاء والقدرة، وغالباً ما يكون قائداً أو وسيطاً بين المردة والجن العاديين.
- القرين: ملازم الإنسان ومرتبط بطاقته النفسية.
- الشيطان: من العصاة المتمرّدين على أوامر الله.
بهذا، يمكن القول إن “العفريت” ليس مجرد نوع من الجن، بل مرتبة ضمن سلم القوة والقدرة داخل عالمهم الخفي، وغالباً ما يُنسب إليه الذكاء الاستراتيجي والقدرة على التلاعب بالعقول.
العفريت في التراث العربي والإسلامي
في الموروث الشعبي العربي، يُرى العفريت ككائن يظهر في الأماكن المهجورة، أو يخرج من القبور أو الآبار القديمة، وغالباً ما يوصف بأنه طويل القامة، عيونه متقدة كالجمر، وصوته أجش كصدى الصخر.
في القصص القديمة، يُروى أن العفريت قد يتجسد في هيئة بشر أو حيوان، وقد يتحدث بلسان فصيح ليضلّل السحرة أو يخدعهم، وأن بعض العفاريت ارتبطوا بالكنوز المدفونة التي لا تُكشف إلا بقرابين دموية أو طلاسم معينة.
ومن أشهر الأمثال التي رسخت حضوره في الذاكرة الشعبية قولهم: “فلان عفريت”، للدلالة على شخص ذكي ومحتال وصعب المراس، وكأنهم يصفونه بصفات الجني ذاته.
العفاريت في الحكايات والأساطير
في القصص المصرية القديمة، ارتبط “العفريت” بمفهوم “الأرواح الحارسة” للقبور والمعابد، بينما في بلاد الشام والمغرب العربي، تُروى حكايات عن “عفريت المصباح” الذي يطيع أوامر من يستدعيه، وقد اختلطت هذه الصورة في التراث العالمي مع “جنيّ المصباح” في ألف ليلة وليلة.
وفي بعض الأساطير الريفية، يُقال إن بعض العفاريت يعيشون قرب الأشجار المعمّرة أو مجاري المياه، ويظهرون للناس في وقت الغروب، أو يبدّلون هيئتهم لإغواء الإنسان ودفعه إلى الضلال أو الجنون.
العفريت في المعتقدات السحرية
في كتب السحر القديمة مثل “شمس المعارف الكبرى” و“الطوخي”، يُذكر العفريت ضمن فئة الأرواح القوية التي تُستدعى لتنفيذ المهام الصعبة أو المحرمة.
يُزعم أن بعض السحرة يطلبون من العفريت جلب الأخبار، أو تسخير الأرواح، أو إلحاق الضرر بالأعداء. وتُرسم لهم طلاسم وأختام خاصة، غالباً ترتبط بالكواكب النحسية كزحل والمريخ، وبالمداد الأسود أو الدم.
في كتب السحر القديمة نجد فصولاً كاملة تُفصل ما يُسمى بـ تسخير العفاريت والمردة، أي إخضاعهم لأوامر الساحر بعد طقوس طويلة.
هذه الطقوس غالباً تتضمن:
- صياماً واعتزالاً لأربعين يوماً (يطلق عليها "الخلوة").
- تلاوة أسماء وكلمات غامضة تُسمى العزائم.
- رسم طلاسم وأختام على أرض الخلوة أو على رقّ من جلد الحيوان.
- استخدام بخور من مواد محددة مثل الجاوي، اللبان الذكر، والدم المسفوح.
يُقال إن ظهور العفريت يحدث في شكل طيفي أو دخاني أولاً، ثم يأخذ هيئة شبه بشرية، وأنه لا يخضع للساحر إلا بعد "العهد" الذي يُكتب بمداد نجس أو بدم ، لكن الموروث الشعبي نفسه يحذّر من أن العفريت لا يُؤمن جانبه، فهو ماكر بطبعه، وقد ينقلب على من يستحضره أو يُصيبه بالمس والجنون.
العفريت في المنظور الديني الإسلامي
القرآن الكريم يؤكد أن الجن - ومنهم العفاريت - مخلوقات عاقلة مكلفة، وأنهم لا يظهرون للبشر إلا بإذن الله : «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ» (الأعراف: 27)
ولهذا يرى العلماء أن من يزعم تسخير الجن أو العفريت إنما يتعامل بمحرمات شركية، لأنه لا يتم إلا عبر طقوس شركية تتضمن الاستعانة بالشياطين مقابل قرابين أو طاعة لهم في معصية الله.
فمن الناحية الشرعية، لا يمكن تسخير العفريت بوسائل مشروعة، لأن طبيعته النارية وحريته تمنع أن يكون خادماً للإنسان، إلا بما شاء الله كما في قصة سليمان عليه السلام.
العفريت في التفسير النفسي والباراسيكولوجي
علماء الباراسيكولوجي أو التحليل النفسي للظواهر الخارقة يفسرون ما يُسمى باستحضار العفريت على أنه حالة إسقاط نفسي أو توليد طاقي من اللاوعي، إذ يعيش الساحر أو الوسيط الروحاني في عزلة طويلة، يختبر الهلوسة السمعية والبصرية نتيجة:
- الحرمان الحسي وقلة النوم.
- تكرار الأصوات والرموز بشكل إيقاعي.
- استدعاء الصور اللاواعية التي تتجسد في شكل “كيان خارجي”.
بعبارة أخرى، فإن "العفريت" الذي يراه الساحر قد يكون إسقاطاً طاقياً من عقله الباطن، وليس كائناً مادياً فعلاً، لكن التجربة تكون واقعية جداً في إدراكه الداخلي ، بينما يراها آخرون كائنات بينية تعيش في بعد آخر، تتقاطع مع العالم المادي في ظروف نادرة أو طقوس خاصة.
العفريت في الأدب والفن الشعبي
تكرر ظهور العفريت في قصص الأطفال والمسرحيات المصرية الكلاسيكية والأفلام القديمة، مثل شخصية “عفريت مراتي” أو “العفريت” لـ عمر الشريف، وغالباً ما تم تصويره ككائن ساخر أو طريف يخفي وراء خفته طبيعة خفية ماكرة.
لكن في الأدب الماورائي الحديث، اكتسب العفريت وجهاً أكثر رعباً وغموضاً، إذ تحول إلى كيان يعيش على الطاقة البشرية، ويُربط بالكوابيس أو بالمس الشيطاني.
وفي الختام يبقى العفريت لغزاً عالقاً بين الدين والأسطورة والعلم ، هل هو مخلوق حقيقي من نار كما وصفه التراث الإسلامي ؟ أم مجرد رمز للدهاء والقدرة الخارقة في المخيلة الجمعية ؟
مهما يكن الجواب، فإن حضور “العفريت” في ثقافتنا العربية يعكس خوف الإنسان من المجهول، وشغفه الدائم بمعرفة ما وراء الحجب ، ذلك الكائن الماكر الذي يقف بين النور والظلمة سيبقى رمزاً لكل ما يتحدى فهمنا للعالم الخفي.
نبذة عن كمال غزال

1 تعليقات:
غير معرف
يقول...we are coming to you
06/10/2025، 10:19:00 م
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .