9 أغسطس 2025

طقس النوم في المعابد والأضرحة

للرؤى والشفاء - النوم في المعابد والأضرحة - طقس قديم
إعداد :  كمال غزال

منذ آلاف السنين، لجأ الإنسان إلى الأحلام باعتبارها وسيلة للتواصل مع الغيب، طلباً للهداية أو الشفاء. 

ومن بين أكثر الطقوس غرابة وجاذبية في هذا المجال ما يُعرف بـ "النوم المقدس" أو Enkoimesis وهو نوم طقسي في مكان له قدسية خاصة أو "بركة"، غالباً ما يكون معبد أو ضريح بهدف استقبال رؤى تنبؤية أو شفاء روحاني وجسدي.

هذه الممارسة ازدهرت في المعابد الإغريقية المخصصة للإله أسكليبيوس، لكنها لم تكن حكراً على اليونان بل عرفتها سابقاً مصر القديمة، وتواجدن مسبقاً في حضارة السومريين من بلاد ما بين النهرين، حتى أن بعض الطقوس المسيحية المبكرة والإسلامية الشعبية تضمنت "المبيت" في أضرحة القديسيين والأولياء طلباً للشفاء أو البصيرة.

الطقس في الحضارات القديمة

في بلاد ما بين النهرين 

كان الكهنة يستخدمون النوم الطقسي للحصول على أوامر إلهية، خاصة قبل اتخاذ قرارات مصيرية للدولة أو الملك ، وقد أشارت نصوص مسمارية إلى أن السومريين مارسوا ما يشبه هذا الطقس قبل أكثر من 4000 عام حيث كان المريد أو الكاهن يبيت داخل حرم المعبد وخاصة في أماكن مخصصة قرب تماثيل الآلهة، على أمل تلقي رسالة أو علاج في الحلم ، وفي المعابد السومرية مثل معبد الإلهة نينسون أو معابد الإله مردوخ في بابل لاحقاً كان "النوم الطقسي" جزءاً من طقوس العرافة، حيث كان الحلم يُفسر في اليوم التالي على يد كاهن مختص ليحدد الخطوة التالية في علاج المرض أو اتخاذ قرار سياسي أو عسكري، ومع انتقال المعارف والمعتقدات عبر طرق التجارة والاحتكاك الثقافي، تبنى الإغريق هذه الممارسة وأضافوا إليها طابعهم الخاص في معابد أسكليبيوس.

في مصر القديمة 

عُرف ما يُسمى بـ "معابد النوم"، حيث ينام طالب الرؤيا على "أسرة الأحلام" داخل قدس الأقداس، آملاً أن يتراءى له الإله في المنام، وقد وثقت برديات طبية حالات شفاء من أمراض جلدية أو عقم بعد النوم في المعابد، حيث كان الحلم يصف لهم وصفة عشبية أو إجراء روحانياً.

في اليونان 

كان المريض يجب أن يطهر جسده بالماء أو بالصوم، ثم يدخل إلى "الأباتون"  وهو جناح مظلم داخل المعبد لينام منتظراً زيارة أسكليبيوس أو أحد خدمه في الحلم، حيث يكشف له العلاج المناسب ، وبعد الاستيقاظ يروي الحلم للكهنة الذين يفسرونه ويصفون العلاج ، وقد عثر على نقش إغريقي من القرن الرابع قبل الميلاد يروي قصة رجل أصيب بالعمى، فنام في معبد أسكليبيوس، وحلم بالإله يضع مرهماً على عينيه، ليستيقظ وقد استعاد بصره.

في العصور الوسطى 

وأزمنة لحقتها ظهرت ممارسات شعبية في العالم الإسلامي تتضمن "المبيت" بجوار ضريح ولي صالح أو في مسجد معين طلباً للرؤيا أو الشفاء، وهي ممارسة لا تزال قائمة في بعض المناطق حتى اليوم ، في المغرب على سبيل المثال تُروى حكاية عن رجل مريض بالشلل النصفي قضى ليلة عند ضريح "مولاي بوشعيب" حيث حلم بشيخ يطلب منه شرب ماء من بئر مجاورة، وعند الفجر بدأ يتحرك تدريجياً.

أشهر 5 أماكن تاريخية

1-  معبد أسكليبيوس في إبيداوروس – اليونان

أشهر مركز للشفاء في العالم الإغريقي، بُني في القرن الرابع قبل الميلاد. كان المريض يخضع لطقوس التطهير، ثم ينام في قاعة الأباتون Abaton المظلمة، النقوش المكتشفة هناك تسجل مئات الحالات التي زار فيها الإله أسكليبيوس أو أبناؤه المرضى في الحلم، مانحينهم علاجاً أو شفاءً فورياً.

2- معابد سيرابيس – مصر البطلمية

خلال الحقبة الهلنستية، امتزجت المعتقدات المصرية والإغريقية في عبادة الإله سيرابيس. كانت المعابد المخصصة له، خاصة في الإسكندرية، تستقبل طالبي الرؤى والشفاء، حيث ينامون في حجرات مهيأة بالبخور والأناشيد.

3- معبد إيمحوتب – سقارة، مصر القديمة

إيمحوتب، المعماري والطبيب الذي أُلّه بعد موته، عُبد كإله للشفاء. معبده في سقارة كان مقصدًا للمرضى منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. تشير البرديات إلى أن الزوار كانوا ينامون في فناء المعبد أو داخله طلبًا للرؤى العلاجية.

4- معبد بعل شمين – تدمر، سوريا

في العصور الكلاسيكية، كان هذا المعبد مزارًا مقدسًا حيث يُمارس النوم الطقسي لطلب النبوءات. تشير بعض النصوص التدمرية إلى أن الكهنة كانوا يفسرون الأحلام بعد مبيت الزائرين في الأروقة الداخلية.

5-  أضرحة الأولياء في المغرب العربي

حتى العصر الحديث، لا يزال المبيت بجوار أضرحة بعض الأولياء ممارسة قائمة. ينام الزائر على أمل رؤية الولي في الحلم لإرشاده أو شفائه. بعض هذه التجارب تسرد قصصًا عن شفاء مفاجئ أو كشف غيبي.

الاستخارة والنوم بنية الرؤيا

في التراث الإسلامي، برزت صلاة الاستخارة كوسيلة شرعية لطلب التوفيق من الله في القرارات المهمة. يقوم المستخير بأداء ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو بالدعاء المأثور عن النبي محمد طالباً من الله أن يختار له الخير ويصرف عنه الشر. أحياناً، ينتظر المستخير أن تأتيه إشارة أو طمأنينة في القلب، أو حتى رؤيا صالحة خلال نومه تساعده على اتخاذ القرار، رغم أن العلماء أوضحوا أن الاستخارة ليست بالضرورة مرتبطة بالرؤيا.

في الممارسات الشعبية، تطورت عادات تشبه الرؤى المرشدة  "incubation" القديمة:

- يكتب الشخص نيته أو سؤاله في ورقة، ويضعها تحت وسادته قبل النوم.

- أو يردد عبارة محددة أو آية قرآنية عدة مرات بنية أن يرى الجواب في الحلم.

- في بعض المناطق، يختار مكان للنوم يُعتقد أن له "بركة" خاصة  مثل بجوار ضريح ولي صالح طلباً للرؤيا الموجهة.

هذه الممارسات، وإن اختلفت في جوهرها عن الطقوس الوثنية القديمة، تشترك معها في الاعتماد على النوم كجسر نحو الإلهام أو التوجيه، حيث يظل الإنسان في حالة ترقب لما قد يكشفه عالم الأحلام.

البعد الماورائي

بالنسبة لأتباع هذه الممارسات، فإن النوم في المكان المقدس ليس نوماً عادياً؛ بل هو "عبور" إلى فضاء روحي يتصل بالعالم الإلهي أو العوالم الأخرى. ويُعتقد أن قدسية المكان وطاقة العبادة المتراكمة فيه تفتح مجالاً لتلقي الإلهام أو الشفاء، وتصف بعض المرويات القديمة التجربة وكأنها "خروج من الجسد" أو دخول في حالة وعي مغايرة حيث تلتقي الروح بكائنات نورانية أو آلهة أو أرواح مرشدة.

التفسير النفسي والعلمي

من منظور علم النفس، يمكن تفسير هذه الظاهرة عبر عدة عوامل:

الإيحاء الذاتي (Autosuggestion)

النوم في مكان له قدسية في معتقدات الشخص يخلق حالة من الترقب والإيمان بحدوث أمر خارق، ما يزيد من احتمالية رؤية أحلام مؤثرة.

تأثير البيئة غير المألوفة

المبيت في مكان غريب، خاصة مع الإضاءة الخافتة أو الظلام والصمت، قد يحفّز الدماغ على إنتاج أحلام أو هلوسات نومية (Hypnagogic hallucinations).

تأثير بلاسيبو (العلاج بالإيمان) 

إذا كان الشخص مقتنعاً بأن المعبد أو الضريح سيشفيه، فإن هذا الإيمان قد يحفز عمليات الشفاء الذاتي في الجسم عبر خفض التوتر وتنشيط الجهاز المناعي. إقرأ عن تأثير البلاسيبو .

التنويم الطبيعي

بعض طقوس ما قبل النوم (الصوم، الترديد، البخور) قد تضع الشخص في حالة وعي شبه منوّم، ما يسهل ظهور الأحلام الموحية.


وفي الختام ، يُعتبر طقس النوم المقدس مثال حي على تداخل الدين، الطب، وعالم ما وراء الطبيعة في حياة الإنسان منذ العصور الأولى ، سواء كان تفسيره يكمن في الإيحاء النفسي أو في طاقة روحية حقيقية، فإن التجارب التي سجلها التاريخ والقصص التي لا تزال تُروى تجعل منه ظاهرة تستحق الدراسة، ليس فقط كجزء من التراث، بل كمرآة لطريقة تفاعل العقل البشري مع المقدّس.

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ