في نهاية القرن التاسع عشر، حين كانت أوروبا تتأرجح بين صدمة العلم الحديث وسحر الروحانيات، ظهرت في لندن جمعية فريدة من نوعها حملت شعاراً طموحاً:
" دراسة الظواهر الماورائية بنفس روح التحقيق العلمي الدقيق."
هكذا تأسست جمعية البحوث النفسية البريطانية Society for Psychical Research المعروفة اختصاراً بـ SPR عام 1882، لتكون أول هيئة علمية في التاريخ تُعنى بدراسة الظواهر الخارقة، مثل التخاطر، ورؤية الأشباح، والتنويم المغناطيسي، والوساطة الروحية ، كانت الفكرة ببساطة أن ما لا يفهمه العلم اليوم، قد يفهمه غداً... إن وُضع تحت المجهر.
ولادة المشروع
جاءت فكرة تأسيس الجمعية خلال مؤتمر عُقد في لندن في يناير 1882 بدعوة من مجموعة من العلماء والفلاسفة المهتمين بالظواهر النفسية الغامضة، وعلى رأسهم:
- هنري سيدجويك : فيلسوف وأستاذ أخلاق في جامعة كامبريدج، وأول رئيس للجمعية.
- فريدريك ويليام مايرز : أديب وعالم نفس، مؤسس مفهوم “اللاوعي الخلاق” ودراسة التخاطر.
- إدموند غورني: عالم نفس متخصص في الهلوسات والتنويم.
- ويليام باريت : فيزيائي بارز في كلية العلوم بدبلن.
- إلينور سيدجويك : أستاذة رياضيات وزوجة هنري، كانت من أوائل النساء الباحثات في بريطانيا.
كما انضم إلى الجمعية لاحقاً أسماء شهيرة مثل اللورد رايلي (الحائز على نوبل في الفيزياء)، وآرثر بلفور (الذي أصبح رئيس وزراء بريطانيا)، والعالم الأمريكي ويليام جيمس من جامعة هارفارد ، كانت تلك النخبة ترى أن ما يُسمى بـ “الظواهر الروحية” ليس بالضرورة خرافة، بل “مجال معرفي لم يُدرس بعد بما يكفي”.
العصر الفيكتوري: ذروة الروحانيات والعلم
كان العصر الفيكتوري في بريطانيا (1837–1901) زمناً فريداً ، فمن جهة ازدهرت العلوم الطبيعية والاكتشافات المادية، ومن جهة أخرى، انتشرت جلسات تحضير الأرواح والوساطة في الطبقات الراقية ، كان الناس يعيشون تناقضاً بين العقلانية والخيال، بين الكهرباء التي تضيء المدن والظلال التي تملأ القلوب ، في هذا المناخ المزدوج، وجدت الجمعية SPR أرضاً خصبة ، فهي لم تكن حركة دينية ولا جماعة خيالية، بل مشروعاً علمياً حاول أن يُخضع “المجهول” للمنهج التجريبي.
الأبحاث الأولى: التخاطر والرؤى والمنازل المسكونة
بدأت الجمعية SPR نشاطها عبر لجان علمية متخصصة درست قضايا محددة:
- التخاطر (Telepathy) : أجرت تجارب جماعية لقياس نقل الأفكار بين شخصين عن بعد، وسُجلت بعض النتائج اللافتة التي لم تُفسّر تماماً. إقرأ المزيد عن التخاطر.
- التنويم المغناطيسي (Mesmerism) : دراسات حول حالات الوعي المزدوج، وتأثير الإيحاء الذهني. إقرأ المزيد عن التنويم الإيحائي (المغناطيسي).
- الوساطة الروحية (Mediumship) : بحثت في صدقية الوسطاء الذين يزعمون التواصل مع الموتى. إقرأ المزيد عن طرق استحضار الأرواح في الوسيط.
- الأشباح والمنازل المسكونة : تحقيقات ميدانية موثقة، منها ما أُدرج لاحقًا في تقارير مشهورة كقضية منزل بورلي ريكتوري Borley Rectory.
وفي عام 1886، أصدرت الجمعية عملها الضخم الذي حمل عنوان أشباح الأحياء Phantasms of the Living الذي ضم أكثر من 700 حالة من رؤى ومشاهدات حدثت بالتزامن مع موت أشخاص أو مرضهم ، كانت محاولة مبكرة لتفسير هذه الظواهر كنوع من “التواصل العقلي الطارئ” بدلاً من الأرواح.
التحقيقات المثيرة: بين العلم وكشف الزيف
من أشهر القضايا التي تناولتها جمعية SPR:
قضية المصور ويليام هوب
الذي زعم التقاط صور لأرواح الموتى، أرسلت الجمعية الباحث هاري برايس للتحقق عام 1922، فاكتشف أنه كان يستبدل الألواح الفوتوغرافية بأخرى معدة مسبقاً ، نشرت الجمعية تقريراً كشف الخداع، مما أثار جدلاً واسعاً، خاصة أن الكاتب آرثر كونان دويل (مؤلف روايات شيرلوك هولمز) دافع عن هوب واتهم الجمعية بالتحيز ضد الروحانيين.
تحقيقات الوساطة الروحية
أجرى الباحث ديفي S.J.M. Davey تجارب تحت أسماء مستعارة ليُظهر أن “الكتابة على الألواح” المزعومة يمكن تنفيذها بأساليب خفة يد ، كما درس ريتشارد هودجسون الوسيطة الشهيرة ليونورا بايبر Leonora Piper في أمريكا، معتبراً تجربتها أقرب ما تكون إلى “دليل على البقاء بعد الموت”، رغم انقسام الآراء داخل الجمعية حولها.
قضية هيلينا بلافاتسكي (Helena Blavatsky)
في 1885، خلص تقرير الجمعية إلى أن مؤسسة الجمعية الثيوصوفية التي كانت تديرها مدام بلافاتسكي كانت “تستخدم خدعاً متعمدة” في رسائلها المزعومة من “المعلمين المهاتما”، وهو ما أثار ضجة كبرى في أوساط الروحانيين في أوروبا والهند.
بهذا التنوع بين التحقيقات، أصبحت SPR بمثابة مختبر ضخم لاختبار الادعاءات الروحية... أحياناً لتأكيدها، وأحياناً لفضحها.
صراع داخلي: العلم في مواجهة الإيمان
لم تمر مسيرة الجمعية من دون انقسامات ، ففي عشرينيات القرن الماضي، تصاعد التوتر بين الأعضاء “المؤمنين” بالظواهر الروحية والباحثين “المتشككين” ، بلغ الأمر ذروته عندما أعلن آرثر كونان دويل استقالته عام 1930، متهمًا الجمعية بأنها “تتعامل مع الأرواح وكأنها مجرمين في قفص الاتهام” ، في المقابل، دافع الباحثون بأن واجبهم ليس الإيمان ولا الرفض، بل التحقق العلمي ، ذلك الجدل جعل الجمعية أكثر تماسكاً في منهجها لاحقاً: التحليل أولًا، التفسير لاحقاً.
العصر الحديث: من الأشباح إلى علم النفس
ما تزال الجمعية قائمة حتى اليوم، بعد أكثر من 140 عاماً من تأسيسها ويقع مقرها الحالي في لندن، 1 Vernon Mews، وتدير مكتبة وأرشيفاً يضم آلاف الوثائق التاريخية والصور والتقارير ، تصدر الجمعية مجلتين علميتين هما: مجلة جمعية الأبحاث النفسية Journal of the Society for Psychical Research و مراجعات ماورائية Paranormal Review.
ولا تزال تُنظم مؤتمرات سنوية وندوات تجمع بين الباحثين في علم النفس، والفيزياء، والفلسفة، وعلم الأعصاب، لمناقشة ما يسمّى “الظواهر الحدية” التي تقع بين الطبيعي وفوق الطبيعي.
رئيستها الحالية البروفيسورة كارولين وات من جامعة إدنبرة، وهي من الباحثين المعاصرين في علم الباراسيكولوجي (Parapsychology) أو علم ما وراء النفس.
تأثير الجمعية حول العالم
امتد تأثير جمعية البحث النفسي البريطانية (SPR) ليؤسس تياراً عالمياً من الجمعيات الموازية التي تبنت منهجها العلمي في دراسة الماورائيات. فبعد ثلاث سنوات فقط، تأسست الجمعية الأمريكية للبحث النفسي (ASPR) في نيويورك عام 1885 بقيادة الفيلسوف ويليام جيمس، لتكون أول امتداد مباشر خارج بريطانيا.
وفي فرنسا، تأسست Société de Psychologie Physiologique et Psychique عام 1885 في باريس بإشراف الطبيب تشارلز ريشيت ، ثم تبعتها الجمعية الألمانية للبحوث النفسية (Deutsche Gesellschaft für Psychical Research) عام 1889 في برلين.
وفي الهند، نشأت Indian Society for Psychical Research في 1920 بمشاركة باحثين من جامعة كلكتا، بينما تأسست في أستراليا Australian Institute of Parapsychological Research عام 1977 في سيدني لتربط الظواهر الماورائية بالمنهج الأكاديمي الحديث.
أما في اسكتلندا، فقد ظهرت Scottish Society for Psychical Research (SSPR) عام 1987 في غلاسكو، مستوحاة بالكامل من روح SPR الأم. واليوم، تظل هذه الجمعيات المستقلة والمتعاونة تمثل الإرث الفكري العالمي الذي زرعته لندن عام 1882، حين قرر نفر من العلماء أن يضعوا “الأشباح تحت المجهر العلمي”.
بين الزيف والحقيقة: إرث مستمر
رغم الانتقادات الكثيرة التي وُجهت إليها من العلماء التقليديين، لا يمكن إنكار الدور الريادي لجمعية SPR في وضع أسس البحث المنهجي في الظواهر الماورائية ، لقد كانت - وما زالت - الجسر الذي عبرت منه دراسة الأشباح من غرف الروحانيين إلى قاعات الجامعات.
لقد كشفت الجمعية الكثير من الزيف والاحتيال، لكنها في المقابل قدمت أيضاً دراسات رصينة حول حدود الوعي البشري، وأثرت الفكر العلمي والفلسفي في الغرب.
أما اليوم، فهي لا تبحث عن الأرواح بقدر ما تبحث عن الحدود الغامضة في النفس البشرية، تلك المنطقة الرمادية التي ما زال العلم والعقل يقتربان منها بحذر، حيث تلتقي الفيزياء بالوجدان، والموت بالحياة، والعقل بالمجهول.
في عالم يزداد فيه الفصل بين العلم والروح، تبقى جمعية SPR شاهداً على محاولة الإنسان الدائمة لسبر المجهول بعقلٍ مفتوح ، لقد سعت لتقنين الغرابة، ونجحت في أن تحويل “الخرافة” إلى “ظاهرة تستحق البحث”، حتى وإن لم تقدم كل الإجابات ، ومهما قيل عنها، فإنها تظل أقدم مؤسسة في العالم حاولت أن تُثبت أن وراء الغيب منهجاً وليس فقط إيماناً.
تنشر جمعية SPR ابحاث وتعرض كتب وتقيم فعاليات ، ويمكنك زيارته موقعها الإلكتروني هنا.
تنشر جمعية SPR ابحاث وتعرض كتب وتقيم فعاليات ، ويمكنك زيارته موقعها الإلكتروني هنا.
نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".
إقرأ أيضاً ...
- هل ترغب بدارسة الماورائيات : جامعات تقدم برامج متخصصة فيها
- ماورائيات تشارلز فورت: تمرد العقل على يقين المختبر
- العلم والماورائيات : هل يمكنك أن تثق بعقلك ؟
- الماورائيات في العالم العربي: بين أسر التفسير الديني وغياب المنهج العقلي
- جمعية الأهرام الروحية : التاريخ الغامض لبوابة الأرواح
- طقوس إقامة جلسة إستحضار الأرواح
- ما هي حقيقة الأشباح في ظل عدم وجود دليل مادي ؟
- ما وراء الطبيعة بين علم النفس والدين والباراسيكولوجي







0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .