إعداد : كمال غزال
على بعد نحو ثلاثين كيلومتراً شمال غرب مدينة حلب السورية، تقف أطلال دير غريب في تصميمه تتوسطه قاعدة حجرية هائلة كانت يوماً ما قاعدة لعمود ضخم.
فوق هذا العمود عاش رجل لسنوات طويلة بلا انقطاع، في عزلة شبه كاملة، لكن وسط توافد لا ينقطع من الزائرين. اسمه سمعان العمودي، ولقبه مأخوذ من أسلوبه الفريد في التعبد: اعتلاء عمود شاهق كأنما أراد أن يقترب من السماء جسداً وروحاً.
من راعي غنم إلى راهب متنسك
وُلد سمعان نحو عام 390 م في منطقة قريبة من حلب ، نشأ كغيره من أبناء القرى، لكنه منذ صغره كان يميل إلى الانعزال والتأمل. بعد انضمامه إلى أحد الأديرة، أدهش الرهبان بصرامته في الصوم والزهد، حتى إنهم رأوا ممارساته تفوق قدرة البشر، فطُلب منه مغادرة الدير، لم يثنه ذلك عن هدفه، بل دفعه إلى مزيد من التطرف في نسكه، حتى قرر الصعود إلى عمود صغير قرب قرية تلعدا، ثم الانتقال لاحقاً إلى عمود أكبر في الموقع الذي أصبح لاحقاً دير سمعان.
36 عاماً بين الأرض والسماء
لم ينزل سمعان من عموده إلا نادراً، إذ كانت المنصة التي يقيم عليها بالكاد تتسع لوقوفه وجلوسه ، كان يقضي يومه في الصلاة، ويتلقى الطعام والماء بواسطة سلال يرفعها الزوار بالحبال. مع مرور الوقت، ارتفع العمود ليصل إلى أكثر من 15 متراً، وأصبح مقصداً للحجاج من كل أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، كما هو مبين في وسط الصورة تبدو صخرة وهي ما تبقى من أثر عمود سمعان بحسب اعتقاد البعض.
الخوارق في حياة سمعان
رغم العزلة الجسدية، صار سمعان محوراً لروايات خارقة، منها:
- شفاء المرضى: زعم كثيرون أن الصلاة أمامه أو دعاءه لهم كان سبباً في شفاء أمراض مزمنة.
- البصيرة الغيبية: قيل إنه كان يعرف بما يجري في أماكن بعيدة، ويحذر من أحداث قبل وقوعها.
- التأثير على الطقس: بعض الحجاج آمنوا بأن صلواته أوقفت المطر أو جلبته في أوقات الجفاف.
- الرهبة الغامضة: حتى الحكام، بمن فيهم الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني، طلبوا مشورته وتبركوا بدعائه.
هذه المرويات قد يراها البعض أساطير نسجتها مخيلة الجماعات، بينما يعتبرها المؤمنون دلائل على "النعمة الإلهية" التي حلت عليه.
دير سمعان: أثر باق
بعد وفاته عام 459 م، بُني مجمع ديني ضخم حول عموده، شمل أربع كنائس متصلة بشكل صليب تتوسطها القاعدة الحجرية للعمود. ظل المكان لقرون وجهة روحية قبل أن يتحول إلى أطلال بفعل الزمن والحروب، لكن حتى اليوم، يقف الحجر شاهداً على قصة أغرب من الخيال.
سمعان العمودي هو موضع تكريم الكنيسة في سوريا - سواء السريانية الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو الروم الأرثوذكس، إذ يعتبر قديساً وتحتفل بعيده في 1 سبتمبر من كل عام (بحسب التقويم الغربي، ويوافق 14 سبتمبر في بعض الكنائس الشرقية) ، وتمتد قداسته إلى خارج سوريا، إذ تذكره الكنيسة القبطية والكنيسة الأرمنية والبيزنطية والكنيسة الكاثوليكية الرومانية في تقاويمها، مما جعله من أكثر القديسين شهرة في القرون الأولى للمسيحية.
أتباعه من الزهاد العموديين
بين التاريخ والماورائيات
شخصية سمعان العمودي تثير تساؤلات عديدة: هل كانت خوارقه نابعة من قوة الإيمان والحرمان الجسدي وتأثيره النفسي على الزوار ؟ أم أن هناك ظواهر غير مفسرة كانت تحيط به، كما هو الحال في قصص القديسين والأولياء عبر التاريخ ؟ وكيف نفسر أن إنساناً عاش عقوداً في ظروف لا يتحملها الجسد العادي، دون أن ينهار أو يمرض مرضاً مميتاً ؟
قصة سمعان العمودي تقف عند الحد الفاصل بين التاريخ الموثق والأسطورة الشعبية. سواء رأيناه ناسكاً استثنائياً أو صاحب كرامات حقيقية، فإن سيرته تكشف عن حاجة الإنسان العميقة للبحث عن رموز روحية تتحدى المألوف، وعن قدرة الإيمان على خلق شخصيات تصبح، حتى بعد قرون، محط إعجاب وفضول الباحثين عن أسرار ما وراء الطبيعة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .