منذ العصور الأولى للمسيحية، كانت الأديرة أماكن للعزلة، والتأمل، والتقوى، لكن في بعض الحالات أيضاً كانت مسارح لتجارب لا تفسير لها: رؤى، أصوات، حالات نشوة، توقف نبض، طيران، ظهورات ملائكية أو شيطانية، وتحولات جسدية غريبة.
بين طيات الصمت والخشوع، ولدت ظواهر روحية عميقة يصفها البعض بأنها بوابات إلى عوالم غيبية، أو حالات نفسية متطرفة.
بين طيات الصمت والخشوع، ولدت ظواهر روحية عميقة يصفها البعض بأنها بوابات إلى عوالم غيبية، أو حالات نفسية متطرفة.
في هذا المقال، نغوص في عالم ثلاث راهبات، من قرون وثقافات مختلفة، جمعت بين الإيمان والتجربة الماورائية الصادمة.
بنديتا كارليني: القداسة في مرآة الجسد
وُلدت بنديتا كارليني عام 1591 في بيزارو، إيطاليا، وسط عائلة من الطبقة المتوسط ، وفي عمر التاسعة دخلت ديراً تابعاً لراهبات القديسة فيرجينيا في مدينة بيسشيا (Pescia).
في عمر العشرين، بدأت تدّعي أنها ترى المسيح ويتحدث إليها، وصفت رؤى شعورية قوية تتضمن زواجاً روحانياً من المسيح، وتلقت "وصايا سماوية". كانت تدخل في حالات نشوة دينية تتشنج فيها أطرافها ويغيب وعيها، أمام الراهبات ، ثم ظهرت شخصية ملاك يُدعى سبلينديتو، يتحدث من خلال جسدها ويأمرها بسلوكيات معيّنة، بما فيها أفعال جسدية مع راهبة تدعى بارتولوميا، قالت بنديتا إنها "وصايا ملائكية".

عام 1619، أرسلت الكنيسة محققين ، حيث سجّلت التحقيقات ظهور جروح في اليدين والقدمين لدى بنديتا خلال لحظات النشوة، وادعت أنها نتيجة "اتحادها بآلام المسيح" ، لكن المشكّكين وبينهم محققو الكنيسة رجّحوا أنها إما أحدثتها بنفسها، أو أنها نتيجة اضطراب عصبي أو هستيري.
ومن الجدير بالذكر أن علامات الوصمات Stigmata أي الجروح المشابهة لجروح صلب المسيح تُعد من أكثر الظواهر الماورائية ارتباطاً بالراهبات الصوفيات ، هذه الظاهرة مثلت في نظر الكثيرين "اتحاداً جسدياً وروحياً" مع المسيح المتألم، وارتبطت دائماً بالرهبات اللواتي بلغن درجات عليا من النشوة والتقشف ، إقرأ المزيد عن ظاهرة آثار الصلب - ستيغماتا.
ومن الجدير بالذكر أن علامات الوصمات Stigmata أي الجروح المشابهة لجروح صلب المسيح تُعد من أكثر الظواهر الماورائية ارتباطاً بالراهبات الصوفيات ، هذه الظاهرة مثلت في نظر الكثيرين "اتحاداً جسدياً وروحياً" مع المسيح المتألم، وارتبطت دائماً بالرهبات اللواتي بلغن درجات عليا من النشوة والتقشف ، إقرأ المزيد عن ظاهرة آثار الصلب - ستيغماتا.
خلال التحقيق اعترفت بارتولوميا بتفاصيل علاقة جسدية، لتتحول القضية إلى أول سجل موثق لعلاقة مثلية صوفية في الأديرة، كما تبين أن سلوكها يحمل طابعاً مسرحياً مع مظاهر هستيريا.
وبناء على ذلك جُرّدت بنديتا كارليني من منصبها كرئيسة دير، ووُضعت تحت الإقامة الجبرية حتى وفاتها عام 1661 ، لم تُتهم رسمياً بالهرطقة، لكن تم نفي شرعية رؤاها.
إعادة اكتشاف القصة في العصر الحديث
في عام 1986، نشرت الباحثة الأمريكية جوديث براون كتاب حمل عنوان : أفعال غير محتشمة: حياة راهبة مثلية في إيطاليا عصر النهضة Immodest Acts: The Life of a Lesbian Nun in Renaissance Italy كشفت فيه تفاصيل ملف التحقيق الكنسي الأصلي في قضية بنديتا، مما أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الأكاديمية والدينية على حد سواء.
وأصبح الكتاب لاحقاً مصدر إلهام لفيلم نال اهتماماً نقدياً بعنوان "بنديتا" : Benedetta (2021) من إخراج بول فيرهوفن، تناول القصة من زاوية تدمج بين الدين، الجنس، والسلطة.
ماريا فيلا إي كويتو: جسدها مات… وروحها بقيت
وُلدت ماريا في بيخار، إسبانيا، عام 1561 ، والتحقت بدير أوغسطيني في أفيلا بعمر 15 عاماً، وكانت معروفة بميولها الشديدة للتقشف والصمت ، كانت تدخل في غيبوبات طويلة، يتوقف فيها تنفسها ونبضها تماماً، فيُظن أنها ماتت ثم تعود فجأة وعيونها مليئة بالدموع، وتصف رحلاتها الروحية ورؤاها عن المطهر والجنة والجحيم، كتبت مذكرات غنية بالتفاصيل تصف كيف " تفصل روحها عن جسدها " وتصعد لتشاهد العوالم الأخرى. كما قيل إنها كانت "تعرف خطايا الآخرين دون أن يخبروها".
وصفت في مذكراتها أنها " تشعر بأنها تترك جسدها وتُسحب إلى الأعلى" ، تحدثت عن "سفر داخلي إلى العوالم العلوية "، مع رؤية من فوق للملائكة والنار الإلهية ، وكانت تدخل في غيبوبات شديدة تنفصل فيها عن العالم الحسي.
كثيراً ما تحدّثت عن ألم حارق في يديها وجنبها أثناء الانخطاف الصوفي، كما شبّهت نفسها بـ"الذبيحة" وقد تكون عانت من ما يُعرف اليوم بـ "الوصمات الداخلية"، أي شعور بالألم في نقاط الصلب دون علامات ظاهرة وهي حالة معروفة عند بعض الصوفية، وفسرها البعض كاضطراب عصبي أو انعكاس نفسي عميق للتأمل في آلام المسيح.
اعتبرت الكنيسة حالتها نادرة لكنها لم ترفضها وبقيت سجلاتها محفوظة في أرشيف الدير، قيد الدراسة اللاهوتية والنفسية حتى اليوم.
هيلدغارد من بينغن: المتصوفة التي رأت لغة الكون
ولدت عام 1098 في ألمانيا، لعائلة نبيلة، وأُدخلت إلى دير بينغن منذ صغرها، وهناك بدأت تشهد رؤى بصرية مذهلة سمتها "الضوء الحي"، حيث يظهر لها نور داخلي يرافقه أصوات إلهية تُملي عليها تعاليم غيبية .
زعمت أنها رأت خلق الكون، ملائكة ساقطة، أرواح مشتعلة، نسيجاً من العلاقات بين الإنسان والنجوم والطبيعة.
تحدثت عن التوازن بين الجسد والروح، وصنّفت الروح كطاقة حيوية سماوية ، كانت تملي رؤاها على راهبات فنّانات مما أنتج رسومات تُعد من أجمل وأغرب ما أُنتج في التصوف الأوروبي ، فيها رموز لولبية، أجساد شفافة، وأبراج نورانية كونية.
زعمت أنها رأت خلق الكون، ملائكة ساقطة، أرواح مشتعلة، نسيجاً من العلاقات بين الإنسان والنجوم والطبيعة.
تحدثت عن التوازن بين الجسد والروح، وصنّفت الروح كطاقة حيوية سماوية ، كانت تملي رؤاها على راهبات فنّانات مما أنتج رسومات تُعد من أجمل وأغرب ما أُنتج في التصوف الأوروبي ، فيها رموز لولبية، أجساد شفافة، وأبراج نورانية كونية.
الأديرة بوابات أم جدران ؟
التجارب الماورائية التي عاشتها هؤلاء الراهبات تُثير تساؤلات كبرى :
- هل كانت تعبيراً عن اتصال روحي فعلي مع كيان أعلى ؟
- أم تجليات نفسية لنساء معزولات في بيئات تقشفية قاسية ؟
- وهل كانت بعض تلك الظواهر مفتعلة للهرب من السلطة الذكورية التي هيمنت على الدين ؟
في ظل قلة التعليم، والكبت الجسدي، والقمع الديني، لم يكن أمام بعض النساء إلا أن يتحولن إلى أوعية للغيب - سواء كان حقيقياً أم انعكاساً داخلياً.
الراهبات والماورائيات في سياق علم النفس
الباحثون في علم النفس الديني يرون أن بعض ما وصفته هؤلاء الراهبات يطابق ما يُعرف اليوم بـ:
- الانفصال التفارقي (Dissociation).
- الهستيريا التحولية.
- الاضطراب الفصامي.
- أو حتى تجارب الخروج من الجسد والإسقاط النجمي.
لكنّ آخرين يعتبرون أن "ما لا يُفسَّر لا يعني أنه غير موجود"، ويُصرّون على أن بعض الرؤى كانت ذات طابع خارق فعلاً.
الصوت بين الجدران
حين تقرأ قصص أولئك الراهبات، ستشعر بأن الجدران السميكة لم تكن تعزل العالم، بل تُخزّن فيه شيئاً أعمق: صوت النفس وهي تصرخ في صمت، تبحث عن الإله، وتلمس حدود الماوراء ، إنها قصص تتأرجح بين القداسة والجنون، بين السماء والهاوية، وتبقى حتى اليوم مرآة لحالة الإنسان حين يختلي بخوفه، وإيمانه، وأشباحه.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .