3 يوليو 2025

هل هناك أطعمة تعزز الروحانيات أو الماورائيات ؟

إعداد :  كمال غزال

لم ينظر القدماء إلى الطعام على أنه مجرد وسيلة للبقاء، بل ارتبط بالطقوس، والرموز، والتجارب التي تتجاوز حدود المادة.

في مختلف الثقافات والديانات، ظهرت فرضية مثيرة: هل يمكن لبعض الأطعمة والمشروبات أن تعزز الإدراك الروحي أو تفتح الباب لتجارب ماورائية ؟

في هذا المقال، نستعرض أبرز ما قيل عن العلاقة بين التغذية والوعي، بين المادة والطاقة، بين الطعام والجسد… والروح.

الغذاء كبوابة للوعي
يؤمن العديد من المدارس الصوفية والروحانية أن الوعي البشري ليس محصوراً في حدود الدماغ، بل يتأثر بما يدخل إلى الجسد من غذاء وطاقة. هذا التصور حاضر في ممارسات مثل التأمل، الصيام، والامتناع عن أطعمة معينة. لكن إلى جانب تلك الرؤى، هناك مواد غذائية نُسبت إليها قدرات تتجاوز المألوف. فهل في هذه الادعاءات شيء من الحقيقة ؟ أم أن ما نراه تجارب ذاتية تُفسَّر بأدوات العلم الحديث؟

أعشاب ومواد ذات تأثير نفسي: بين الرؤى والهلوسة
بعض الأطعمة ليست طعاماً تقليدياً، بل بوابات كيميائية تغيّر عمل الدماغ. وقد استُخدمت عبر التاريخ في طقوس وديانات وسحر (إقرأ عن استخدام النباتات في السحر لمزيد من التفاصيل) 

- الإبسنت Absinthe
مشروب أخضر لُقّب بـ"الجنية الخضراء"، كان يُستهلك في أوساط الفنانين والشعراء في باريس القرن التاسع عشر. يُقال إنه كان يلهمهم رؤى إبداعية غير مسبوقة. لكن الدراسات الكيميائية المعاصرة أثبتت أن "الثوجون"، المركب الذي نُسب إليه التأثير، لا يوجد بكميات كافية لإحداث هلوسات، وأن ما يحدث هو ببساطة تأثير كحولي قوي ممزوج بالأساطير.

-  الفطر السحري Psilocybin Mushrooms
لطالما استُخدم هذا الفطر في الطقوس الدينية لدى شعوب أمريكا اللاتينية، نظرًا لتأثيره القوي على الإدراك. العلم الحديث أكّد أن مادة السيلوسيبين تغيّر نشاط الدماغ، وتُحدث لدى بعض الأشخاص ما يُسمى "التجربة الصوفية": إحساس بالوحدة مع الكون، محبة غير مشروطة، فقدان الإحساس بالزمن. لكنها تبقى تجربة نفسية عصبية لا تستند إلى مصدر خارق.

-  الداتورا Datura
نبتة سامة ترتبط في التراث الشعبي بأسماء مثل "عشبة الشيطان". استُخدمت في طقوس شامانية، لما تسببه من هذيان ورؤى. إلا أن الجرعة القاتلة قريبة جدًا من الجرعة المؤثرة، ما يجعلها خطرة إلى حد كبير. العلم لا يرى في الداتورا "بابًا روحياً"، بل مادة سامة تسبب اضطراباً عقلياً ، بعض النباتات قد تؤدي إلى تغييرات عميقة في الإدراك، لكنها غالباً ما تكون ناتجة عن التسمم أو التأثير العصبي، لا عن دخول حقيقي إلى عالم ماورائي.

رمزية الأطعمة في الثقافات: غذاء الجسد والروح
بعيدًا عن المواد المخدرة، هناك أطعمة طبيعية ارتبطت في الموروثات الدينية والروحية بقدرات معنوية أو رمزية:

- العسل
يرتبط العسل في معظم الديانات بالشفاء والطهارة. في الإسلام، وُصف في القرآن بأنه "فيه شفاء للناس"، وفي الهندوسية يدخل ضمن طقس "بانشامريتا" كمكون مقدس. علميًا، هو مضاد أكسدة قوي ومفيد للصحة، لكن لا دليل على تأثيره في التنوير الروحي.

- الرمان
ثمرة كثيفة الرموز. في الأساطير اليونانية، أكلتها بيرسيفون في العالم السفلي، فارتبطت بعالم الموتى، ودورة الحياة والموت. في الديانة اليهودية والمسيحية، يرمز الرمان إلى الحياة والخصب. تأثيره هنا ثقافي وروحي، لا فسيولوجي.

- التمر
رمزٌ قوي في الممارسة الإسلامية، خاصة في رمضان. يُقال إن النبي محمد ﷺ كان يفطر عليه. يعتبره المتصوفة غذاءً "نظيفًا" يدعم التركيز الروحي. التمر غني بالسكريات والمعادن، لكنه علميًا لا يمتلك خصائص خارقة، بل يهيّئ الجسد لصيام طويل.


القهوة والمنبهات: طاقة أم تهيؤات ؟
للقهوة مكانة فريدة في الثقافات الصوفية. في مجالس الذكر، كانت تُشرب لتعزيز الصفاء الذهني. الكافيين ينشّط الجهاز العصبي، ويزيد من الانتباه واليقظة. بعض الأشخاص يربطونه بزيادة الحدس أو "الاستبصار".

لكن الإفراط في الكافيين يمكن أن يسبّب القلق، وسرعة ضربات القلب، وحتى الهلوسة البصرية والسمعية في حالات نادرة. دراسة بريطانية عام 2009 أظهرت أن استهلاك أكثر من 7 أكواب يومياً ارتبط بازدياد تقارير الهلوسات الخفيفة.

القهوة قد تساعد على التركيز في جلسات التأمل، لكنها ليست بوابة روحية، بل منبه عصبي قوي.

الصيام كمحفّز للتجارب الروحية
الصيام حاضر في معظم الديانات الكبرى: الإسلام، المسيحية، البوذية، الهندوسية… يُعتبر وسيلة لتنقية النفس والانفصال عن الرغبات المادية. يروي متصوفة وممارسون تجارب "رؤيوية" في أوقات الصيام الطويل، خاصة عندما يقترن بالعزلة والتأمل.

علمياً، الصيام يُغيّر كيمياء الدم والدماغ، ويُحسّن التركيز والذاكرة في بعض الحالات. وقد أظهرت دراسات أن الامتناع عن الطعام يعزّز الانتباه والوعي الذاتي. لكن لا دليل أن الصيام وحده يفتح بوابات إلى "عالم آخر".

تجربة أليستر كراولي: حين يصبح الطعام بوابة للسحر والاتصال الكوني
لم يكن أليستر كراولي (1875–1947) الملقب بكبير سحرة القرن العشرين مجرّد متصوف أو ساحر غربي، بل من أوائل من تحدثوا بوضوح عن الصيام والطعام كأدوات لتحفيز الوعي الباطني، في طقوسه السحرية التي دوّنها في صحراء الجزائر مارس كراولي صياماً صارماً دام أياماً، تخلله الامتناع عن اللحوم والملذات الحسية، مكتفياً بأطعمة رمزية مثل التمر والعسل والماء.

كان يرى في الصيام والتحكم في الطعام وسيلة مركزية للوصول إلى حالات وعي "عالية"، وتحضير الجسد لاستقبال الكيانات أو الانخراط في الطقوس السحرية.

في يومياته وكتاباته، أشار إلى أنه مارس فترات من الصيام الطويل، امتنع فيها عن اللحوم، وتناول أطعمة "نقية" كالعسل والتمر والخبز غير المخمَّر.

في إحدى تجاربه في صحراء الجزائر عام 1909، حيث أجرى طقوساً لاستحضار كيان يُدعى عيواس  Aiwass (قال لاحقاً إنه مرشده الروحي)، امتنع عن الطعام لأيام، واقتصر على القليل من التمر والماء والنبيذ، بهدف "تحرير وعيه من طاقة الجسد". وأفاد أنه شعر بنشوة صوفية ورؤى ميتافيزيقية في حالة من الصفاء العقلي والحرارة النفسية.

اعتبر كراولي أن الجوع المنضبط والمقترن بالتأمل والتلاوة هو أحد المفاتيح للوصول إلى "الواقع الحقيقي خلف الحجاب"، وأن الطعام ليس مجرد تغذية للجسد، بل طقس رمزي يؤثر في الروح.

الجوع والجنس كقوتين لتحرير "الإرادة الحقيقية"
في طقوس كراولي، الصيام لم يكن فقط وسيلة لتصفية الجسد، بل أداة لتركيز الطاقة الليبييدية (الجنسانية). فقد اعتقد أن الامتناع عن الطعام يعزز الحيوية الجنسية ويجعل الجسد مستعداً للطقوس السحرية الجنسية التي يقوم بها تحت مبدأ ثيلما  Thelema ("افعل ما تشاء هو كل الشريعة").

كان يرى أن كبح الغرائز (الطعام، الجنس، النوم) يضاعف طاقتها الداخلية، بحيث يمكن استخدامها في لحظة معينة لتفعيل النوايا السحرية وهو مبدأ مأخوذ جزئياً من تقاليد التانترا الهندية، لكنه مُحرف وغربي الطابع في فكره.

"كعكة النور" كمزيج جنسي وغذائي
أشهر مثال على الجمع بين الجنس والطعام عند كراولي هو اختراعه ما يُعرف بـ "كعكة النور" Cake of Light، وهي عنصر أساسي في طقوسه ، تُصنع من طحين، عسل، زيت زيتون، وقليل من دم الحيض أو المني ، تُؤكل كجزء من الطقس لتجسيد اتحاد الإلهي بالبشري، ويُعتقد أنها تمنح القوة الروحية لمن يستهلكها ، رأى كراولي أن إدخال مكونات جنسية في طعام طقوسي هو ذروة الفعل السحري، لأنه يدمج "جوهر الحياة" في المادة المهضومة ، هذه الممارسة كانت صادمة حتى لأتباعه، ولكنها تعبّر عن نظرته للجنس كطقس مقدس، والطعام كحامل للنية السحرية.

الصوم قبل الطقوس الجنسية
في بعض نصوصه، مثل Liber XV: The Gnostic Mass، يُذكر ضمنياً أن على المشاركين في الطقوس الصوم قبل الدخول في طقس جنسي سحري، الهدف من ذلك هو تركيز الإرادة وإضعاف الجسد مؤقتًا لتعزيز الروح ، لجعل الذروة الجنسية أكثر "تحرراً" لأنها لا تأتي من شهوة بدنية، بل من نية روحية.


العلم يتدخل: هل يمكن ربط الغذاء بالماورائيات ؟
العلوم العصبية تؤكد أن المواد التي نستهلكها تؤثر في كيمياء الدماغ، من السكر والكافيين إلى التربتوفان والميلاتونين. ولكن لا وجود حتى الآن لدليل علمي يُثبت أن هناك طعاماً أو شراباً يفتح قدرات خارقة أو يزيد من الاتصال بالماورائيات.

أغلب ما نُسب إلى الأطعمة من تجارب روحية أو رؤى خارقة يمكن تفسيره ضمن نطاق:

- التغيرات الفسيولوجية (تأثير على الهرمونات)

- التجارب النفسية الذاتية (إيحاءات ثقافية)

- الحالات المعدلة للوعي الناتجة عن الصوم، التأمل، أو العزلة

بين الرمزية والتأثير الفعلي
هل هناك أطعمة تعزز التجارب الماورائية ؟ الإجابة تعتمد على زاوية النظر:

- من المنظور الروحي:  نعم ، كثير من الأطعمة ترتبط في المخيال الجمعي بطقوس ومشاعر روحية، وهذا يعطيها بعدًا معنويًا خاصًا.

- من المنظور العلمي:  لا ، لا يوجد طعام يُنتج قدرات خارقة، وإنما هناك تأثيرات عصبية ونفسية قد تُفسّر على هذا النحو.

الغذاء يبقى من أقوى أدوات الاتصال بين الإنسان والعالم من حوله… بين الداخل والخارج. وقد تكون قيمته الروحية أحياناً فيما يمثله لا فيما يفعله.


|إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ