5 يونيو 2025

RHYTHM 0: تجربة حرّرت الشر الكامن

إعداد: كمال غزال

في عام 1974، داخل قاعة عرض بمدينة نابولي الإيطالية، وقفت الفنانة اليوغوسلافية مارينا أبراموفيتش صامتة تماماً. لم تتحرك، لم تتكلم، لم تقاوم.

أمامها طاولة تحمل 72 غرضاً: بعضها رمزي ولطيف كالعسل والورد والريشة، وبعضها مؤذٍ وخطير كسكين، مسمار، سوط، بل حتى مسدس حقيقي وطلقة واحدة.

هكذا بدأت واحدة من أكثر التجارب الفنية والنفسية إثارة للجدل في القرن العشرين: عرض الأداء المعروف باسم Rhythm 0. تجربة لم تكن هدفها الاستعراض... بل فضح الإنسان.

العرض: جسد مُسَلَّم وجمهور بلا قيد
دعت مارينا الجمهور لاستخدام أي من هذه الأدوات معها كما يشاؤون، دون أي مقاومة منها، أعطتهم الحرية الكاملة.

استمرت التجربة ست ساعات، خلالها قررت الفنانة التخلي تماماً عن إرادتها، لتصبح مجرد "جسم" في أيدي الآخرين.

في البداية، تعامل الحضور بحذر، بدا عليهم الارتباك، البعض لمسها برقة، آخرون قدّموا لها الزهور أو أطعموا شفتيها حبات العنب. لكن شيئًا فشيئاً، ومع مرور الوقت وغياب أي رد فعل منها، بدأت الضوابط الأخلاقية تتآكل.

التصعيد: حين سقط القناع عن الإنسان
تحوّل الحذر إلى فضول عدواني، ثم إلى عنف سافر ، تمزقت ملابسها بالمقص ، جُرحت عند العنق بسكين، وشُرب دمها ، علّقها البعض على الحائط، أو حملوها عاريةً وسط القاعة ، وغُرِزَ السكين بين فخذيها في الطاولة، في مشهد موحٍ ومحفوف بالخطر.

لكن اللحظة الأشد رعباً جاءت حين اقترب أحد الحاضرين من المسدس، ووضع الطلقة داخله، ثم ناوله إلى مارينا نفسها، وثبّت إصبعها على الزناد، ودفع يدها نحو رأسها كما لو أنه يختبر: "هل ستقتل نفسها ؟ هل ستقاوم ؟ ".

هنا، كانت المسألة أكثر من استفزاز فني. لقد أصبحت رهاناً على الحياة والموت.

الصمت الذي فضحهم جميعاً
عند نهاية الست ساعات، تحرّكت مارينا لأول مرة، تمشي ببطء بين الجمهور، عارية، تنزف، والدموع في عينيها. لكنها لم تصرخ، لم تعاتب. فقط... نظرت في أعينهم فهربوا ، هربوا كالذين أدركوا فجأة أنهم لم يكونوا يشاهدون عرضاً، بل كانوا أنفسهم... العرض.

هل نحن طيبون بالفطرة أم بالرقابة ؟
تجربة "Rhythm 0" فتحت باباً مظلماً على سؤال فلسفي قديم:

هل الخير صفة فينا، أم مجرد قناع نرتديه أمام الآخرين ؟ ومتى نختار السكين بدل الريشة ؟ الرصاصة بدل الوردة ؟

هذا العرض، كغيره من التجارب مثل سجن ستانفورد أو اختبار ميلغرام، كشف أن الشر لا يحتاج إلى شيطان… بل إلى فرصة ، وأن الناس العاديين، حين يُعفَون من العواقب، قد يصبحون جلادين.

مارينا تقول: " إذا منحتَ الجمهور سلطة مطلقة، لن تكون بعيداً عن الموت."

ما قدمته أبراموفيتش لم يكن فقط أداءً فنياً، بل مرآة عارية لنفوسنا.

في حضور الورد والسكين، كان يمكن للجمهور أن يختار الجمال… لكنه اختار الجرح ،وربما هنا تكمن عبقرية العرض: أنه لم يُظهر جسد امرأة مكسوراً، بل مجتمعاً مكسوراً من الداخل.


تجربة سجن ستانفورد - 1971
قسّم الباحث فيليب زيمباردو طلاباً إلى "سجناء" و"حرّاس" داخل محاكاة لسجن، وخلال أيام قليلة بدأ الحرّاس في إساءة معاملة السجناء بوحشية، مما كشف كيف يمكن للسلطة أن تفسد السلوك الأخلاقي.

اختبار ميلغرام - 1961
طلب الباحث ستانلي ميلغرام من مشاركين إعطاء "صدمات كهربائية" لمتطوعين مزيفين بأمر من شخص سلطة، ووجد أن معظمهم استمروا بإيذاء الآخرين لمجرد تنفيذ الأوامر، مظهرين طاعة عمياء للسلطة حتى على حساب الضمير.

صلة مع الماورائيات

 الشر الكامن كقوة خفية في النفس
في علم النفس، يُعتقد أن الإنسان يحمل في داخله جوانب مظلمة وهو ما يدعوه كارل يونغ "الظل" The Shadow ، هذه القوى الكامنة لا تُرى ولا تُدرَك بسهولة، لكنها تنفجر في ظروف خاصة، كما في هذه التجارب ، كونها " قوى غير مرئية تؤثر في الواقع " سواء كانت داخلية أو خارجية.

ما خفي في النفس قد يفوق ما خفي في العالم
الماورائيات تتناول الأرواح، الكيانات، والطاقات الخفية. لكن في هذه التجارب، الإنسان نفسه هو الكيان الغامض. أحياناً يبدو أنه لا يحتاج إلى شيطان خارجي... بل يكفي أن يُترك وحده ليُخرج شيطانه الداخلي.

غياب الرقيب... وظهور اللاوعي
كما يُقال في الموروثات الروحية إن الأرواح الشريرة تظهر حين يغيب الوعي أو الحماية الروحية، فإن هذه التجارب أظهرت أن الشر النفسي يظهر حين يغيب الرقيب الأخلاقي، سواء كان قانوناً أو ضميراً. وهذا يطرح سؤالاً ماورائياً بامتياز: من نحن حين لا يرانا أحد ؟ وهل نحمل داخلنا "كياناً" نجهله، كما نحمل داخلنا العقل الواعي واللاواعي ؟

مارينا الآن
بعد مرور عقود على تلك التجربة الصادمة، لم تختفِ مارينا أبراموفيتش في الظل، بل واصلت مسيرتها كإحدى أكثر فناني الأداء تأثيراً وجدلاً في العالم. تحوّلت من ضحية تجربة حدّية إلى رمزٍ عالمي للقوة، والتحدي، والفن الذي يختبر الوعي والضمير.

في عام 2010، قدّمت أداءً شهيراً في متحف موما MoMA بنيويورك بعنوان "The Artist is Present"، جلست فيه صامتة لأيام طويلة، تواجه جمهورها بنظرات صامتة مليئة بالوعي وكأنها تكرر التجربة، لكن بثمن داخلي مختلف: نظرةٌ بلا دم، تُحاسب بلا كلمات.

اليوم، تُعد مارينا أبراموفيتش أيقونة ثقافية عالمية، وأعمالها تُدرّس في كبرى الجامعات. وقد نالت تكريمات دولية وأطلقت مؤسستها الخاصة لتخليد فن الأداء.

ومع ذلك، يبقى "Rhythm 0" هو العمل الأكثر جدلاً وتأثيراً، العمل الذي لم يجرح جسد مارينا فقط، بل جرح صورة الإنسان في مخيّلته هو.

وقد لخّصت ما حدث بجملة واحدة خالدة: " إذا منحتَ الجمهور حريةً مطلقة، فقد تقتلك. "


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ