13 يونيو 2025

هل الجن "سلوك بشري" ؟ قراءة في رؤية سامر إسلامبولي والرد عليها

إعداد :  كمال غزال

يُعد الباحث سامر إسلامبولي من أبرز الداعين إلى إعادة قراءة القرآن بمنظور فلسفي رمزي، حيث يسعى في مؤلفاته مثل "تحرير العقل من النقل" و"القرآن من الهجر إلى التفعيل" إلى تحرير النص من التفسيرات التقليدية و"استئناف الفهم القرآني" بعقلانية معاصرة.

رغم أهمية محاولات التجديد وإعمال العقل، إلا أن إسلامبولي يتجاوز في بعض المواضع البُعد الغيبي القرآني، ويقدّم رؤى تؤول كثيراً من المفاهيم الغيبية الكبرى (كالجن والملائكة والشيطان) على أنها رموز سلوكية أو فكرية داخل الإنسان. 

ومن أبرز طروحاته المثيرة للجدل: "الجن ليسوا مخلوقات مستقلة، بل حالات سلوكية ونفسية بشرية"، وأنه يمكن للإنسان أن "يتحوّل" إلى جني بسلوكه، أو إلى شيطان عندما يبالغ في الإفساد أو التخريب. ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يفسّر الآية الكريمة: "من الجنة والناس" (سورة الناس) بأنها تعني "فئات من الناس" لا أكثر، وأن "الجن" هم من البشر أنفسهم، لا كائنات مستقلة.

بين التصوف والمجاز المفرط
يمكن القول إن طرح سامر إسلامبولي يشبه في ملامحه تأويلات رمزية لأفكار صوفية وفلسفية قديمة، حيث فُسِّرت الكائنات غير المرئية كـ "حالات وطاقات داخل الإنسان". غير أن إسلامبولي يخلط بين المجاز والواقع النصي، في محاولة لإعادة تأويل ظاهر النصوص الشرعية خارج سياقها العقدي واللغوي.


من القرآن واللغة: الجن ككائنات مستقلة
اللفظ القرآني "الجن" ورد 29 مرة، وفي كل موضع تقريباً يقابل بوضوح مع "الإنس"، مما يدل على تمايز وجودي وليس مجرد تباين سلوكي. 

قال تعالى:

" وخلق الجان من مارج من نار " (الرحمن: 15)

"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56)

" قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا " (الجن: 1)

كما في الحديث الشريف: "خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ من مَارِجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مما وُصف لكم." – رواه مسلم.

كل هذه النصوص تشير إلى أن الجن كائنات عاقلة، مخيّرة، مخلوقة من نار، وتعيش في عالم موازٍ لعالم البشر، وتُكلّف كالبشر.


فهم خاطئ للعطف في آية "يا معشر الجن والإنس"
في قوله تعالى: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا" (الرحمن: 33) يستدل إسلامبولي بعدم تكرار كلمة "معشر" على أن المقصود فئة بشرية واحدة ذات طبيعتين سلوكيتين، وليس جنسين مختلفين ، لكن هذا تأويل مرفوض لغوياً ، فالعطف بالواو لا يستوجب تكرار اللفظ كقولنا: "يا طلاب وطالبات" لا يعني وحدة النوع ، بلاغياً، كثيراً ما يفرق القرآن بين الجن والإنس، كما في قوله: "سنفرغ لكم أيها الثقلان" (الرحمن: 31)، و "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: 56)، مما يدل على وحدة الخطاب لا وحدة الكينونة.


آية " يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس"
قال تعالى: "ويوم نحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض..." (الأنعام: 128) ، ويرى فيها  إسلامبولي أن "الجن" في الآية مجرد طبقة بشرية خفية، تحالفت مع طبقة أخرى ظاهرة، وأن الاستمتاع هنا مجازي  كاستغلال اجتماعي أو نفسي ، لكن التفسير الموروث واللغوي يرفض ذلك: الجن خُوطبوا ككائنات مستقلة " قد استكثرتم من الإنس " أي  تواصل وتأثير وتحالف بين جنسين.

عن ابن عباس: استمتاع الإنس بالجن يعني استعاذتهم بهم، والجن استمتعوا بخضوع الإنس لهم ، ولو كان الجميع بشراً، لقيل: " يا معشر الناس " أو "استكثر بعضكم من بعض".

رمزية مفرطة تُفرغ العقيدة من مضمونها
من خلال هذه الرؤية الرمزية، يقوم إسلامبولي بإسقاط ما هو غيبي وتحويله إلى استعارة فلسفية:

الجنة = حالة شعورية
إبليس = فكرة العصيان
الجن = حالات خفية داخل الإنسان

وهذا منهج يلتقي مع الفكر الباطني، ويفرّغ النصوص من الغيب، ويجعل العقيدة محلّ تفكيك دائم، متجاهلًا قوله تعالى: "الذين يؤمنون بالغيب" (البقرة: 3).

التجديد المنضبط لا يعني نفي الغيب
نحن لا نرفض التجديد ولا قراءة غير تقليدية للنص، لكن يجب أن تكون منضبطة لا تلغي الغيب ولا تتجاوز القطعيات ولا تحوّل العقيدة إلى رمزية فلسفية مجردة فالتجديد الحق هو إعادة تفعيل النص بلغة العصر دون هدم جوهره.


هل تأويل إسلامبولي متأثر بفلسفة يونغ النفسية ؟
من الناحية الفلسفية، يمكن تتبع جذور رؤية سامر إسلامبولي الرمزية للجن إلى مدارس التحليل النفسي الحديثة، وعلى رأسها علم نفس الأعماق الذي أسسه كارل غوستاف يونغ. فالمفاهيم التي يستخدمها إسلامبولي، مثل:

- أن الجن حالات داخل النفس البشرية

- وأن الوساوس أو السلوكيات المنحرفة هي تمثيلات لا كائنات

- وأن الخوف من الجن هو إسقاط نفسي لمجهول داخلي.

كلها تتقاطع مع مفاهيم يونغ التالية:

1- الظل The Shadow
الظل عند يونغ يمثل الجانب المكبوت من النفس، الصفات التي نرفض الاعتراف بها في ذواتنا. وهي تُسقط على كائنات رمزية أو مخلوقات شريرة في الخيال الجمعي والأساطير ، من هذا المنظور، يمكن أن يرى إسلامبولي الجن على أنهم تجسيد نفسي لـ"الظل" الذي يخيفنا لأنه يسكن داخلنا.

2- الأنِيما والأنيموس  Anima / Animus
وهما الصور اللاواعية للأنوثة في الرجل (أنِيما)، أو الذكورة في المرأة (أنيموس). كان يونغ يرى أن هذه القوى تنعكس في الأحلام والأساطير على شكل كيانات غامضة، فاتنة أو مخيفة ، وتلامس هنا بعض التفسيرات الشعبية للجن العاشق أو الكائنات المغوية في الليل هذه المفاهيم، وقد تكون منطلقاً لا شعورياً لرؤية إسلامبولي الرمزية.

3- اللاوعي الجمعي Collective Unconscious
يرى يونغ أن البشر يشتركون في خزان من الرموز Archetypes، تظهر في الأساطير والديانات والكوابيس. ومنها: الشيطان، الساحرة، العجوز الحكيم،... إلخ ، الجن في هذا الإطار يمكن أن يكونوا "أركيتايب" يمثل الخوف من المجهول أو الرغبة المقموعة.

هل اعتبرهم يونغ كائنات حقيقية ؟
لا. يونغ لم يرَ هذه الرموز ككائنات خارجية مستقلة، بل كمكونات نفسية تظهر بأقنعة متعددة. هو لم يُنكر وجود الظواهر الغامضة، لكنه اعتبر أن منشأها نفسي لا ميتافيزيقي.

ما الفرق بين يونغ وإسلامبولي ؟
بينما يقر يونغ بأن الرموز تُولد من النفس وتؤثر على السلوك والتاريخ والأسطورة، دون أن يُلغي تماماً إمكانية التجربة الروحية أو الماورائية فإن إسلامبولي يذهب أبعد، فيحوّل كل الغيبيات إلى تمثيلات داخلية، بل ويُسقط القراءة العقدية من أساسها. 

بالتالي، يمكن القول إن تأويله للجن يُظهر تأثراً غير مصرح به برؤية يونغ… لكن دون ضبط أو وعي منهجي بحدود النص القرآني أو الفارق بين الرمزية النفسية والعقيدة الدينية.


حين يُختزل الغيب… يُفقد الإيمان
رؤية سامر إسلامبولي حول الجن تفتقر إلى السند اللغوي والشرعي والمنطقي. الجن ليسوا حالات سلوكية بشرية، بل خلق من نار، عاقل، مكلّف، ويُخاطب كما يُخاطب الإنسان ، إنكار الغيب باسم الفلسفة لا يُثري العقيدة، بل يُضعفها. والمؤمن الحق هو من يزاوج بين العقل والإيمان… لا من يستبدل الغيب بالمجاز.

نبذة عن الباحث سامر إسلامبولي 
كاتب وباحث سوري في الفكر الإسلامي، وُلد في دمشق عام 1963، ويُعرف بمشروعه الفكري الذي يسعى إلى إعادة قراءة النص القرآني من منظور عقلاني وفلسفي معاصر.

برز من خلال مؤلفاته مثل "تحرير العقل من النقل"، و"القرآن من الهجر إلى التفعيل"، و"رؤية قرآنية في مواضيع اجتماعية"، حيث يدعو إلى تجاوز التفسير التراثي لصالح تأويل رمزي قائم على البنية اللغوية والسياق المعرفي الحديث.

ينشط إسلامبولي عبر محاضراته وموقعه الرسمي، كما تظهر أفكاره في مقابلات مصورة متداولة على منصات التواصل الإجتماعي، ورغم إسهامه في تحريك الجدل الفكري حول النصوص، إلا أن أطروحاته أثارت الكثير من النقد لتجاوزها الثوابت العقائدية تحت شعار التجديد،  تجد هنا  الموقع الرسمي للباحث سامر إسلامبولي.


إقرأ أيضاً ...

ألوان النفس: الطيف الخفي الذي لا تراه العيون وتبصره القلوب

- الماورائيات في العالم العربي: بين أسر التفسير الديني وغياب المنهج العقلي

- أبرز شخصيات الجن في طقوس السحر العربي

- الكيانات الخفية : بين التسخير والانسجام

- العلم والماورائيات : هل يمكنك أن تثق بعقلك ؟

- مقتطفات من سيرة الجن في الأدب العربي

- يونغ وما وراء الطبيعة

- دور العقل في الماروائيات: الحالات النفسية الشائعة

- علم نفس الغرائب

- إكتشاف مناطق "ما وراء الوعي" في الدماغ

- السقوبة والحضون : شياطين الشبق في التراث

- السقوبة والحضون : شياطين الشبق في التراث

- فرضية الخالدي :تفسير عقائدي لظاهرة الأطباق الطائرة

1 تعليقات:

غير معرف

يقول...

هذا اكيد شرك بالله ياريت يحتفظ بافكاره لنفسه لا يعرضها علي احد ربنا يهدي

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ