11 يونيو 2025

السقوبة والحضون : شياطين الشبق في التراث

إعداد :  كمال غزال

في هدوء الليل، حين يستسلم الجسد للنوم وتغفو الحواس، تظهر كائنات غريبة من العدم. لا تهاجمك بأسنان حادة ولا أنياب متوحشة، بل تقترب بهدوء، تتسلل إلى سريرك، تجلس على صدرك… وتبدأ طقساً مقلقاً من المتعة والرعب ، في التراث تدعى السقوبة أو خناسة الوصال وفي النسخة الغريبة تدعى سكيوبس Succubus ، أي الجنية الشبقة التي تُغري الرجال في أحلامهم؛ وفي المقابل هناك الحضون، الشيطان العاشق الذي يغشى النساء في نومهن وفي نسخته الغربية يدعى أنكيوبس Incubus .

وراء هذه الصور المخيفة يكمن تاريخ طويل من الموروثات والأساطير والفتاوى والتجارب النفسية… حيث تختلط الرغبة بالخوف، واللذة بالخطيئة، والأسطورة بالواقع.

في هذا المقال، نفتح ملفاً من أكثر الملفات غموضاً في الثقافة العربية: من أين جاء مفهوم السقوبة والحضون ؟ ولماذا حملتهم المجتمعات ذنباً لا يريد أحد الاعتراف به ؟ وهل هما بالفعل مخلوقان شبقيان ؟ أم مجرد أقنعة لرغبات لم تجد منفذاً إلا في الخيال والخرافة ؟

تعريف السقوبة والحضون – كيانات الشهوة المتخفّية
في القواميس الحديثة، تُعرَّف السقوبة (Succubus) بأنها شيطانة أنثى تغوي الرجال أثناء النوم بهدف المواقعة. ويُقابلها الحضون (Incubus)، الشيطان الذكر الذي يفعل الشيء نفسه مع النساء.

لكن هذين الكائنين ليسا اختراعاً غربياً فحسب؛ بل لهما جذور في المخيلة العربية أيضاً، وإن تنوعت أسماؤهما بين: أم الصبيان ، السعلاة ، عيشة قنديشة ، الجن العاشق، الجنية العاشقة ..الخ.

في كل حكاية منهما، تجد فكرة واحدة تلمع في الظلام: كيان خفي يتسلل إلى فراشك ويلمس جسدك حيث لا تراهم عين.

حضور الجن العاشق في التراث العربي

من كتب الفقه إلى ألف ليلة وليلة نجد أمثلة : 

1- في القرآن والحديث
قال تعالى: ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴾ (الرحمن: 56). وقد فسّرها ابن الجوزي وآخرون على أن الجن قادر على معاشرة الإنس.
واعتبروها دليلًا على أن الجن يجامعون لكن يبقى اجتهاد شخصي منه ،  ضمن سياق تفسير آية تتحدث عن الحور، وليس دليلاً مباشراً على وجود علاقة جنسية بين الجن والإنس في الدنيا.
وهو قول قابل للنقاش، ولا يُعد حجة قاطعة.

وفي رواية عن ابن عباس، قال لرجل جاءه يشكو: "إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار"، فقال له: "ذاك من وطء الجن".

2- في الفقه الإسلامي
ناقش العلماء حكم نكاح الجن، فبعضهم كرهه وبعضهم أثبته. يقول ابن تيمية: " قد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف."

حتى أن بعض كتب الفقه بحثت في فتاوى مثل : هل تغتسل المرأة بعد جماع جني؟ هل يُعتد بزواج الجنية؟ هل يجوز طلاقها؟

3- في التصوف وأدب الأحلام
في كتب الصوفية، تتكرر حكايات عن جنّيات يختبرن إيمان الأولياء، وعن شيوخ صارعوا الغواية في المنام. لكن البعض اعتبرها رموزاً للرغبة المكبوتة، أو ابتلاءات باطنية.

4- في ألف ليلة وليلة 
نجد جنّيات يحتفظن بعشاق بشر في صناديق من الحديد، وقصصاً عن رجال خُدعوا بجمال امرأة لم يعرفوا أنها جنيّة. كل هذه القصص تؤكد وجود تخييل ثقافي عميق حول العلاقة الغامضة بين الإنس والجن، خصوصًا في إطار الجنس.

أمثلة عن الجنية العاشقة والقاتلة
يجري تصويرها في الثقافة الشعبية دائماً على أنها الجنية الفاتنة التي تغوي لتقتل ونذكر منها :  

- أم الدويس
 هي جنية مشهورة في الموروث الخليجي، تظهر بهيئة امرأة فاتنة برائحة عطر نفاذة، تغوي الرجال ثم تفتك بهم إن استجابوا لها، وتُعد من أبرز رموز الجن العاشق في الثقافة الشعبية.

- أم الصبيان: الجنية العاشقة القاتلة
جنية تظهر للنساء الحوامل أو الرجال الوحيدين، وتُتهم بإسقاط الأجنة أو التسبب بالعقم. تُصوَّر أحياناً كأنثى فاتنة، وأحياناً كمخلوق بشع ذو أقدام حيوان.

- السعلاة: أنثى الغول
تتربص بالمارة في الصحارى، تظهر بهيئة امرأة ثم تنقضّ على ضحيتها. يُقال إنها تمارس الجنس مع الرجل ثم تقتله.

- عيشة قنديشة 
أشهر شيطانة في الفلكلور المغربي، تجمع بين الجمال القاتل والجنون، يُقال إنها تتغذى على لذة الرجال ثم تقتلهم أو تجرّهم إلى عالمها. يرى الباحثون أنها مكافئ مباشر لـ سكيوبس Succubus الغربية.


الجن العاشق وطقوس الرقية الشرعية
انتشر مفهوم "الجن العاشق" في الرقية الشرعية الحديثة، حيث يُقال إن الجن يتلبّس المرأة أو الرجل حباً ورغبة، ويمنع الزواج أو يتسبب في اضطرابات جنسية. وهي ظاهرة شعبية تُستغل أحياناً لعلاج قضايا نفسية أو اجتماعية أو ضطرابات نفسية أو جنسية، ويمنع الزواج أو يُثير كوابيس واحتلاماً متكرراً.

يعتمد الرقاة في العلاج على قراءة القرآن والنفث والماء والزيت، لكن كثيراً من هذه الحالات تفسّر طبياً بأنها اضطرابات نفسية أو صدمات مكبوتة. ومع ذلك، تبقى الرقية وسيلة يلجأ إليها البعض كحل ديني-اجتماعي يعطي تفسيراً مقبولاً لحالات يصعب فهمها.


بلقيس… بين الملكة والأسطورة الجنسية
في كتابه الجريء "بلقيس: امرأة الألغاز وشيطانة الجنس"، يقدّم المفكر زياد منى قراءة ثورية لملكة سبأ، باعتبارها رمزاً للمرأة المحرَّمة/المشتهاة. ، يرى الكاتب أن بلقيس هي النموذج الشرقي لـ الجنية العاشقة؛ امرأة لا تُفهم، تُمتحن وتُرهب وتُغري، لكنها في النهاية تتجاوز حدود المرأة العادية ، حيث كتب : " بلقيس ليست ملكة، بل جسد من ألغاز… شيطانة تسكن الأنوثة الشرقية منذ الأزل."

هذا التصور يفسّر كيف أصبحت صورة المرأة المستقلة أو القوية في الوعي الجمعي تُربط بـ "الخطر الجنسي"، وكيف أُسقطت على الجنّيات كأمثال السقوبة وأم الدويس وعيشة قنديشة.

التحليل النفسي – إسقاط العادة السرية وشيطنة الرغبة
من وجهة نظر التحليل النفسي، يُمكن فهم ظاهرة السقوبة والحضون كالتالي:

- شلل النوم والاحتلام
الاحتلام الليلي المصحوب بشلل النوم وأحاسيس غريبة (ضغط على الصدر، لمسات، نشوة) يُفسَّر شعبياً على أنه زيارة من شيطانة أو جني. لكنه في الطب النفسي يُعزى إلى اضطراب النوم، أو أحلام واعية ممسرحة أو أحلام مُمَثَّلة ذهنياً بصورة درامية

- آلية الإسقاط النفسي
حين لا يستطيع الإنسان تقبّل رغبته الجنسية (خاصة في المجتمعات المحافظة)، يُسقِطها على كيان خارجي:

- " أنا لم أفعلها… الجنية فعلت بي ذلك."

- " أنا لم أحتلم… الجن اغتصبني."

- " لست شاذاً… الشيطان يغريني."

هذه الآليات تُساعد العقل على التنصل من الذنب.

- العادة السرية والشيطنة
في ثقافة تعتبر العادة السرية محرّمة، يتم اللجوء إلى سردية الجنية التي تثير الرجل وتفعل به ما تشاء. 

الحقيقة ؟

إنها عادة سرية بمبرر خارق. الجن هنا ليس إلا ذريعة لإراحة الضمير… وواجهة للرغبة الخجولة.


رمزية الحضون والسقوبة
من منظور رمزي، تمثل السقوبة والحضون : الخوف من اللذة ، القلق من الجنس غير المشروع ، الشك في الجسد ، الفراغ العاطفي ولهذا نجد أن هذه الكيانات لا تظهر إلا في الظلام ، لا تُرى ، لا يمكن التحكم بها  ، تُشعرك باللذة… ثم الندم الذي يلحق بها.


هل الجن العاشق حقيقي؟ أم مجرد صورة داخلية ؟
سواء صدّقنا بهذه الكائنات أو فسرناها نفسياُ، تبقى السقوبة والحضون مرآة لمجتمعنا: مجتمع يكبت الجنس ويخاف من الأنثى القوية ويقدّس الطهارة… ويشتهي الخطيئة ووسط كل هذا الصراع تولد الأسطورة…
كي تمارس عنا ما لا نجرؤ عليه ، وتُلام بدلًا منا، حين نضعف.


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ