قلّما أثرت شخصية أسطورية/رمزية في الفكر البشري بعمق مثل شخصية هرمس مثلث العظمة Hermes Trismegistus ، فهو ليس مجرد إله من آلهة الإغريق ولا مجرد كاهن مصري، بل رمز عالمي جمع بين النبوّة، الفلسفة، والعلم، حتى صار جسراً يربط بين أديان السماء ومعارف الأرض.
الهرمسية لم تكن مجرد مدرسة فكرية، بل تيار باطني حمل فكرة أن الكون كتاب مفتوح، وأن الإنسان قادر عبر التأمل والمعرفة السرية على بلوغ الإله ومن هنا تركت بصمتها في التصوف الإسلامي، الكابالا اليهودية، الفلسفات الغنوصية، الجمعيات السرية مثل الماسونية والفجر الذهبي، وكذلك في الخيمياء (Alchemy) والسحر الطقسي.
هرمس في الأسطورة الإغريقية
في الأساطير الإغريقية، هرمس (Hermes) هو إله المراسلات والتجارة والدهاء والسفر والحدود، وأحد أبناء الإله زيوس ، كان يُصور على أنه رسول الآلهة، يرتدي القبعة المجنحة والصندل المجنح اللذين يمنحانه سرعة الحركة بين العالمين: عالم البشر وعالم الآلهة ، كما ارتبط بسرقة الماشية والمكر، لكنه أيضاً كان حامياً للتجار والمسافرين واللصوص على حد سواء.
هرمس في الفكر الهلنستي
في العصر الهلنستي (بعد الإسكندر الأكبر)، اندمج هرمس الإغريقي مع الإله المصري تحوت (Thoth) إله الحكمة والكتابة والسحر، لينشأ لاحقاً ما يُعرف بـ هرمس مثلث العظمة (Hermes Trismegistus) الذي يجمع بين نبي ملهم (كما في إدريس/أخنوخ) وكاهن ساحر (كما في تحوت المصري) وفيلسوف عقلاني (كما في الأفلاطونية المحدثة).
اعتُبر هذا الكيان الهجين حكيماً خالداً علم البشر أسرار الفلسفة والرياضيات والفلك والسحر والكيمياء، ونُسبت إليه نصوص روحية وفلسفية عُرفت باسم الكتابات الهرمسية (Hermetica)، التي أثرت لاحقاً في الفكر الفلسفي والعرفاني (الغنوصية)، وحتى في بعض الفلسفات الإسلامية (كالفكر الإسماعيلي).
لماذا اختير إدريس/أخنوخ لتمثيل هرمس ؟
في التراث الإسلامي والمسيحي واليهودي، إدريس (أخنوخ في التوراة) يتميز بصفات استثنائية:
- أول من خط بالقلم (المؤرخون المسلمون كالطبري والماوردي يذكرون أنه أول من كتب وعلّم الناس الحساب والفلك).
- رُفع إلى السماء: القرآن يقول: "ورفعناه مكانًا عليًّا" (مريم: 57)، وفي سفر التكوين: "وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه".
- عاش قبل الطوفان (أي ينتمي إلى عالم "ما قبل نوح")، مما أضفى عليه هالة من الحكمة القديمة التي سبقت الشرائع.
هذه الصفات جعلته في أعين اللاحقين "النبي-الحكيم" الذي يتجاوز حدود الأرض، وبالتالي قريب من صورة هرمس مثلث العظمة الذي هو أيضاً "المعلم الأول" و"النبي الحكيم" و"المرفوع بين السماء والأرض".
التعاليم الهرمسية: حكمة سرية ومعرفة باطنية
ظهرت النصوص الهرمسية (Corpus Hermeticum) في الإسكندرية ما بين القرن الأول والثالث الميلادي، وعرضت صورة للعالم تقوم على مبادئ أساسية منها :
وحدة الوجود (Pantheism)
الهرمسية تؤمن بأن الله والعالم واحد، وأن الكون كله تجلٍ للعقل الإلهي ، حيث يمثل الله "العقل الكلي" ، العالم المادي ليس منفصلاً عنه، بل هو انعكاس وتجسد له ، والإنسان جزء من هذا الإله الكوني، ويمكنه عبر المعرفة الروحية أن يدرك حقيقته ، هذه الفكرة تناقض الفكرة التقليدية للأديان السماوية التي تؤكد الفصل بين الخالق والمخلوق (ليس كمثله شيء). ولهذا كانت وحدة الوجود محل جدل كبير في الإسلام والمسيحية واليهودية.
المبادئ الهرمسية السبعة
الهرمسية صاغت سبعة مبادئ كونية وردت في كتاب كايباليون (The Kybalion)، وهي أساس الفلسفة السحرية والباطنية الغربية:
مبدأ الذهنية – "الكل عقل": الكون بأسره تجل للعقل الإلهي وهو نفسه وحدة الوجود الذي ذكر آنفاً.
مبدأ المراسلات – "كما في الأعلى كذلك في الأسفل" أي ما يحدث في السماوات ينعكس في الأرض.
مبدأ الاهتزاز – "لا شيء في سكون": كل شيء في حركة وذبذبة مستمرة.
مبدأ القطبية – "كل شيء له ضده": الخير/الشر، النور/الظلام، هي أطياف لحقيقة واحدة.
مبدأ الإيقاع – "كل شيء يتدفق ويعود": الحياة تسير في موجات دورية.
مبدأ السبب والنتيجة – "لا شيء يحدث صدفة": كل حدث له سبب، وكل سبب يولّد نتيجة.
مبدأ النوع (الجنس) – "الذكر والأنثى في كل شيء": الازدواجية أساس الخلق في الطبيعة والروح.
هذه المبادئ لم تبقَ فلسفية فحسب، بل تحولت إلى قوانين سحرية اعتمدت عليها الطقوس الباطنية والخيمياء الروحية.
هرمس في التراث العربي والإسلامي
حين انتقلت الفلسفة الهلنستية إلى العالم الإسلامي عبر الترجمة، ظهر هرمس في كتابات المؤرخين والفلاسفة المسلمين، حيث أوجد المسعودي وابن النديم صلة له مع النبي إدريس عليه السلام، أول من خط بالقلم، وعلّم الناس علم النجوم والحساب ، بعض المتصوفة رأوا فيه حكيماً إلهياً يتنقل بين العوالم، بينما وجد السحرة والمهتمون بالكيمياء في اسمه غطاء للعلوم السرية في كتب السحر العربي، مثل شمس المعارف، يُذكر هرمس بوصفه أحد أعمدة "الحكمة القديمة" التي وصلت من مصر وبابل إلى العرب.
التأثيرات الهرمسية في الحركات الباطنية والصوفية
في الكابالا اليهودية
الكابالا التقليدية يهودية الأصل ، لكن في عصر النهضة وُلدت "الكابالا الهرمسية" التي جمعت بين شجرة الحياة الكابالية والمبادئ الهرمسية ، من هنا صارت أوراق التاروت مرتبطة مباشرة بالهرمسية والكابالا معاً، حيث كل ورقة تمثل مبدأً كونياً أو كوكباً أو سراً روحانياً.
في التصوف الإسلامي
بعض المتصوفة (مثل ابن عربي) تكلموا عن وحدة الوجود بعبارات شديدة الشبه بالهرمسية ، إدريس الذي عُدّ هرمس الأول صار رمزاً لـ"العرفان" والعلوم السماوية ، تعود بعض الطلاسم والأوفاق في كتب السحر العربي (مثل شمس المعارف) إلى الحكمة الهرمسية.
في المسيحية والغرب
في عصر النهضة، أعاد مفكرون مثل مارسيليو فيتشينو وبيكو ديلا ميراندولا قراءة النصوص الهرمسية باعتبارها "وحياً قديماً" سبق المسيح ، هذه القراءة أثرت لاحقاً في الجمعيات السرية مثل الماسونية والصليب الوردي والفجر الذهبي، التي اتخذت هرمس معلماً أعلى للحكمة.
في السحر والخيمياء
الهرمسية أساس الخيمياء: تحويل المعادن إلى ذهب لم يكن غاية مادية فقط، بل رمزاً لتحويل النفس من "رصاص الجهل" إلى "ذهب الكمال".
في الطقوس السحرية، اعتُبرت مبادئ هرمس السبعة قوانين تحكم الاستحضار والتنجيم وربط الإنسان بالكواكب والطاقات.
التعاليم الباطنية الهرمسية: ما بقي في السر
النصوص الهرمسية التي وصلت إلينا (Corpus Hermeticum و Asclepius) ليست بالضرورة كل ما كتب عن هرمس ، هناك إشارات في التراث الأوروبي والعربي إلى "تعاليم هرمسية" لم تُدوّن للعامة، بل تناقلها الكهنة والسحرة شفهياً.
بعض هذه المعارف ارتبطت بـ: الطلاسم والأوفاق (مربعات الأعداد، الرموز الكونية) ، أسرار الفلك والكواكب التي لم تُكشف إلا للمريدين ، الخيمياء الروحية (تحويل النفس إلى كمال) التي ظلت محصورة في المدارس السرية ، لهذا عُدّت الهرمسية علماً خفياً (Occult Knowledge) أي معرفة للخاصّة فقط، وليست متاحة للعامة.
الهرمسية في الفكر الإسماعيلي الباطني
تأثر الفكر الإسماعيلي - خاصة في القرون الهجرية الأولى - بالفلسفات الهلنستية بما فيها الهرمسية، اعتبر بعض الدعاة الإسماعيليين أن هرمس هو النبي إدريس، وأنه "أول الحكماء"، جامع أسرار النجوم والحساب، تحدثت النصوص الإسماعيلية عن العقل الكلي والنفس الكلية بعبارات قريبة جداً من المتون الهرمسية ، في رسائل إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري) نجد مزيجاً واضحاً من الفكر الأفلاطوني المحدث والهرمسي، حيث يُعرض الكون ككائن حي يتصل أعلاه بأسفله ، هذا التراث الباطني انتقل لاحقاً ليؤثر في الفكر الشيعي والتصوف الفلسفي.
الهرمسية والماسونية
الماسونية في عصر النهضة استلهمت الكثير من الهرمسية، حيث استخدم رمز الكادوسيوس (عصا هرمس ذات الثعبانين) في الشعارات الباطنية ، فكرة "البناء الكوني" و"المهندس الأعظم للكون" قريبة جداً من التصور الهرمسي عن الله كعقل كلي ينظم الكون ، مبادئ هرمس السبعة انعكست في بعض الطقوس الماسونية التي تربط بين الهندسة، الأعداد، والمعنى الروحي ، بعض الباحثين يعتبرون الهرمسية جذراُ فكرياُ للماسونية، إلى جانب الكابالا.
الهرمسية والصليب الوردي (Rosicrucianism)
حركة الروزكروشيان (الصليب الوردي) ظهرت في القرن السابع عشر بألمانيا، وقدّمت نفسها كأخوية سرية تجمع بين المسيحية الباطنية، والكيمياء، والفلسفة الروحية ، في نصوصهم، يُذكر هرمس بوصفه المصدر الأول للحكمة القديمة ، تبنّوا أفكاره عن أن الإنسان قادر عبر المعرفة (Gnosis) أن يرتقي لمرتبة أشبه بالإلهية ، شعارهم (الوردة والصليب) ارتبط بالتوازن بين الروح والمادة، وهو صدى مباشر لمبدأ هرمسي: "كما في السماء، كذلك على الأرض" ، كثير من الطقوس الروزكروشية مبنية على "التأمل في الرموز" وهو أسلوب مأخوذ من الهرمسية.
الهرمسية وأوراق التاروت
ظهرت أوراق التاروت (Tarot) أولًا كلعبة ورق في إيطاليا القرن 15م، ثم جرى "إعادة تفسيرها" باطنياً.
- في القرن 18–19، ربط السحرة والروحانيون التاروت بالهرمسية والكابالا.
- كل ورقة كبرى (22 Major Arcana) جرى وصلها بحرف عبري، وكوكب، ومبدأ هرمي.
فمثلاً: ورقة "الساحر – The Magician" تُعتبر تمثيلاً لرمزية هرمس كرسول بين العوالم.
جمعيات مثل الفجر الذهبي دمجت التاروت مباشرة مع المبادئ الهرمسية.
الهرمسية وجمعية الفجر الذهبي
جمعية الفجر الذهبي التي ظهرت في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر، تُعد من أهم الجمعيات السرية في أوروبا الحديثة، وكان لها دور كبير في صياغة الطقوس السحرية الغربية ، اعتمدت الجمعية بشكل كبير على التعاليم الهرمسية، حيث جمعت بين عناصر من الكابالا اليهودية، السحر الكلاسيكي، التنجيم، والكيمياء الهرمسية ، هرمس كان بالنسبة لهم المعلم الأعلى للحكمة السرية، وأحد ركائز ما يسمونه Tradition Primordial (التقليد الأزلي) ، طقوسهم تضمنت استدعاءات و"مراسلات كونية" (Correspondences) مأخوذة من الفكر الهرمسي: العلاقة بين الكواكب، الألوان، العناصر الأربعة.
نظرة العالم إلى الهرمسية
هي نظرة إيجابية عند المهتمين بالفلسفة والروحانيات إذ يرونها حكمة قديمة تسعى لربط الإنسان بالكون ، بينما هي نظرة محايدة لدى الأكاديميين حيث تُدرس بوصفها تياراً فكرياً-غنوصياُ نشأ في الإسكندرية، في حين تبقى النظرة سلبية لدى المتدينين التقليديين، إذ أن اليهودية والمسيحية والإسلام يعتبرونها فلسفة وثنية منحرفة، لأنها تقوم على أسرار باطنية لا وحي سماوي .
ذكر بعض علماء المسلمين (مثل ابن خلدون) أن علوم السحر والكيمياء ارتبطت بـ"هرمس"، ورأوا أن فيها ضلالاً وخلطاً ، رأى بعض المؤرخين أن هرمس هو النبي إدريس، أي نبي موحِّد، لكن الفقهاء عموماً ربطوا الهرمسية بالسحر والتنجيم والتحذير من علوم "باطنية" لا تستند إلى وحي.
ينظر حاخامات اليهود للهرمسية بحذر شديد، لأنها اختلطت مع الكابالا، ويرفضونها كونها "وثنية" ودين مستقل.
كما أدانت المسيحية الكاثوليكية الحركات الهرمسية باعتبارها منبع السحر والتنجيم ، وهاجمها آباء الكنيسة الأوائل (مثل أوغسطينوس) باعتبارها غنوصية مضلل، لكن في عصر النهضة أعاد بعض الفلاسفة المسيحيين (مارسيليو فيتشينو) قراءتها بإيجابية.
وفي الختام ، هرمس ليس شخصية تاريخية فحسب، بل رمز حضاري باقٍ عبر القرون، في صورته الأولى هو النبي إدريس الذي رفعه الله مكاناً عليًّا ، في صورته الثانية هو تحوت المصري، الكاهن الذي كتب أسرار السحر والكون ، وفي صورته الثالثة هو الفيلسوف اليوناني-الهلنستي الذي صاغ الكون في لغة العقل، من خلال هذه الصور جميعاً، ظل هرمس المعلم الأكبر الذي يمزج بين الدين والفلسفة والعلم، وحاملاً لفكرة أن العالم تجلٍ للعقل الكلي، وأن الإنسان إذا عرف نفسه عرف الإله.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .