10 أبريل 2025

Textual description of firstImageUrl

" النظر إلى الخلف " في الاسطورة والقصص

إعداد : كمال غزال

في أعماق الميثولوجيا الإغريقية، حيث تتقاطع العواطف البشرية بالقدر، وتتمازج الأقدار مع نزعات الخلود، نجد واحدة من أكثر الأساطير تأثيراً وعمقاً: أسطورة أورفيوس ويوريديس.

أورفيوس لم يكن مجرد موسيقي، بل كان يُعتقد أن صوته يلين الصخور، ويوقف سريان الأنهار، ويجعل الوحوش تستكين. وُلد من "كاليوبي"، إحدى ربات الإلهام (الميوزات)، ونشأ وهو يعزف على القيثارة التي أهداه إياها الإله "أبوللو" .

أحب أورفيوس فتاة جميلة تدعى يوريديس، وكان حبه لها نقياً وعميقاً، حتى أنه غنّى باسمها أمام الجبال، والأنهار، والآلهة. لكن الحكاية السعيدة لم تدم، فخلال يوم زفافهما، لسعتها أفعى قاتلة، ولفظت أنفاسها الأخيرة وسط زغاريد الفرح التي تحولت إلى بكاء.

الرحلة إلى العالم السفلي
في خطوة لم يجرؤ عليها أحد من قبله، قرر أورفيوس أن ينزل إلى العالم السفلي، إلى مملكة "هاديس"، بحثاً عن حبيبته. وهناك، في أحلك أعماق الظلام، عزف على قيثارته نغمة حزينة أبكت حتى أرواح الأموات، وحرّكت مشاعر "هاديس" وزوجته "بيرسيفوني" .

سمح له هاديس بإعادة يوريديس إلى الحياة، ولكن بشرط غريب:

"سر أمامها ولا تنظر خلفك حتى تعودا إلى نور الحياة."

قَبِل أورفيوس، وسار في الدهاليز الضيقة الكئيبة، يستمع فقط إلى خطواتها الخفيفة خلفه ، لكن، وقبيل وصوله إلى العالم العلوي، اعترى قلبه الشك:
هل ما زالت خلفه ؟
هل خدعه هاديس ؟
هل هي مجرد وهم ؟

فاستدار...

وفي اللحظة ذاتها، رأى وجه يوريديس للحظة خاطفة، قبل أن تتلاشى إلى الأبد في ظلال العالم السفلي. لم يُسمح له بالعودة مجدداً.


نبذة تاريخية 
أسطورة أورفيوس ويوريديس تعود إلى التقاليد الشفوية للميثولوجيا الإغريقية قبل أن تُدوَّن في الأدب الكلاسيكي. ظهرت بوضوح في أعمال شعراء مثل: فيرجيل في ملحمته الجيورجيكس (Georgics – القرن الأول قبل الميلاد)،

وفي أوفيد في التحولات (Metamorphoses)، حيث تشكّلت القصة بصورتها الشعرية التي نعرفها اليوم.

كان أورفيوس رمزاً للموسيقى والفن والارتباط الروحي، ويُقال إنه مؤسس ديانة "الأورفية" وهي عقيدة غامضة ارتبطت بفكرة الخلاص، والعالم الآخر، والتطهر الروحي.

رمزية الأسطورة وأبعادها الفلسفية

1- قوة الشك وضعف الإنسان
الأسطورة ترمز إلى اللحظة التي يتغلب فيها القلق على الإيمان. أورفيوس لم يثق في الوعد، لم يثق في الحب، ولم يثق في نفسه. فانهار كل شيء. وكأن الشك هو الفخ الأكبر في طريق الإنسان نحو الخلاص.

2- الرجوع للماضي كعبء وجودي
النظر خلفنا أحيانًا يعيدنا إلى الوراء بالفعل، لا مجازًا. ما مضى قد لا يعود، ولكن استمرار التعلق به يمنعنا من التقدم، من النور، من الحياة. أورفيوس دفع ثمن لحظة "حنين".

3- الفن كقوة ميتافيزيقية
الموسيقى هنا ليست وسيلة ترف، بل قوة تهز العوالم، تُلين قلوب الآلهة، وتخترق حُجب الموت. وكأن الإغريق أرادوا القول: "الفن، وحده، يستطيع أن يقاوم الفناء".


حضور الاسطورة في الثقافات العالمية

قصة زوجة لوط – الرواية التوراتية
في سفر التكوين (الإصحاح 19) من العهد القديم، يُروى أن الله قرر تدمير مدينتي سدوم وعمورة بسبب الفساد والشر المنتشر فيهما. أمر الله النبي لوط أن يهرب مع أسرته، وقال له:

"لا تلتفت وراءك، ولا تقف في كل الدائرة، اهرب إلى الجبل لئلا تهلك."
(تكوين 19:17)

لكن زوجة لوط، بينما كانت تهرب، "نظرت إلى وراءه" – أي إلى المدينة وهي تحترق – فكان عقابها أن تحولت إلى عمود من ملح.

هذا المشهد أصبح مجازاً شهيراً في الفكر الديني والثقافي، يرمز إلى خطورة التعلّق بالماضي الخاطئ، أو رفض التغيير والانفصال عن الفساد.

في التفسير الرمزي، يُرى أن "النظر إلى الوراء" لا يعني الفعل الفيزيائي بقدر ما هو نقطة ضعف داخلية، تعكس عدم الثقة بقرار الرحيل أو التمسّك بما يجب أن يُترك.


إيزاناغي وإيزانامي – الأسطورة اليابانية
في الأساطير اليابانية القديمة، كما وردت في كتاب كوجيكي (Kojiki) وهو أقدم سجل تاريخي وأسطوري في اليابان نجد قصة الخلق التي تبدأ بالزوجين الإلهيين :

إيزاناغي (Izanagi): الإله الذكر الذي خلق الأرض.

إيزانامي (Izanami): الإلهة الأنثى التي أنجبت آلهة عديدة، لكنها ماتت عند ولادة إله النار، ونزلت إلى عالم الموتى (يومي – Yomi).

حزن إيزاناغي على فراقها، ونزل إلى "يومي" ليعيدها، فوافقت على العودة بشرط أن لا ينظر إليها حتى تنتهي طقوس خروجها.

لكن إيزاناغي لم يحتمل الانتظار، فأشعل شعلة ونظر... ليجد زوجته وقد تحللت وتحولت إلى كيان مرعب. فصرخت فيه، وطردته من العالم السفلي، وتحوّلت إلى إلهة الموت. بينما نجا هو، لكنه غطى جسده بطقوس التطهّر، ومنها وُلدت آلهة جديدة، مثل إلهة الشمس أماتيراسو.

الأسطورة هنا تعكس حدود العلاقة بين الحياة والموت،  لم يجلب النظر إلى الحبيبة الراحلة الخلاص، بل كشف فناءها القاسي.

وتشير إلى أن هناك "أشياء لا ينبغي رؤيتها" قبل وقتها، وأن الفضول الإنساني قد يفتح أبواباً لا رجعة فيها.


لا تزال الأسطورة حية حتى اليوم
لأنها تتحدث عنا جميعاً. عن أولئك الذين فقدوا أحباءهم، وحاولوا بكل ما يملكون إعادتهم – ولو بالحلم. عن الذين يخشون أن يمضوا في الحياة دون نظرة أخيرة. عن أولئك الذين يعزفون على قيثارة الذكرى في أروقة الوحدة.

1 تعليقات:

هيثم ممتاز يقول...

عندما قرأت المقال تذكرت ذكر القصة الاغريقية في إحدى أعداد سلسلة فانتازيا

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ