22 أكتوبر 2025

اضطراب ثنائية القطب : بين مس الكيانات واضطراب العقل

ثنائي القطب بين الماورائيات والعلم
إعداد :  كمال غزال

منذ قرون، حير البشر مرض عجيب تتناوب فيه الأرواح بين النور والعتمة، بين النشوة العارمة واليأس القاتم، حتى بدا وكأنه ساحة صراع بين كيانين يسكنان الجسد الواحد ، إنه الاضطراب ثنائي القطب Bipolar Disorder أو كما كان يُعرف في العصور القديمة بـ الجنون الدوري، ذاك الذي يجعل صاحبه يضحك ثم ما يلبث ينهار باكياً، ويبدع في ساعة بينما تدمره ساعة أخرى.


بين الهوس والاكتئاب: تأرجح الروح بين قطبين

يتميز مرض ثنائية القطب بتقلبات حادة في المزاج ،  فترات هوس (Mania) يعيش فيها المريض فرط طاقة، تسارع أفكار، اندفاع، وثقة غير واقعية تليها فترات اكتئاب عميق (Depression) يغرق فيها في الحزن، انعدام الدافع، والأفكار الانتحارية أحياناً ، وفي بعض الحالات، يتناوب القطبان بسرعة كبيرة حتى في اليوم الواحد، فيبدو المريض وكأنه يعبر بين عالمين متضادين دون قدرة على الثبات في أيهما.

هذه التقلبات جعلت القدماء يفسرون الحالة على أنها صراع بين الأرواح: روح نورانية تهب الإلهام، وأخرى مظلمة تزرع الكآبة والجنون.

كيف نظر القدماء إلى هذا الاضطراب ؟

في عصور ما قبل الطب النفسي، لم يكن ثنائي القطب يُفهم كمرض، بل كـ تجلي لقوى ما وراء الطبيعة.

الإغريق والرومان

رأى هيبوقراط وأرسطو أن من يعاني هذا التقلب يعيش ما يسمى “الجنون الإلهي”، حيث تتناوب عليه الأرواح: إحداها تمنحه الإلهام والشعر والرؤية (هوس إبداعي) ، والأخرى تغرقه في ظلام “المالنخوليا” (الكآبة السوداء).

أما الفلاسفة فاعتبروا أن الجنون رفيق العبقرية، إذ لا يبدع من لم يلمس حدود اللاعقل.

في التوراة والإنجيل

ورد في سفر صموئيل أن الملك شاول كان يُصاب بروح رديئة فيحزن ويغضب، ثم تهدأ نفسه حين يعزف له داوود — وصف دقيق لحالات التقلّب المزاجي.

وفي أوروبا المسيحية، كانت هذه الحالات تُفسّر بأنها مس شيطاني أو امتحان من الرب، فيعالج المصاب بالرقى والصلوات.

في الثقافة الإسلامية

في التراث العربي والإسلامي، لم يكن التفريق واضحاً بين الصرع العصبي والاضطرابات النفسية، فكلاهما عُزي إلى الجنّ.
وصف الأطباء المسلمون، كابن سينا والرازي، حالات قريبة من ثنائية القطب في “المالنخوليا” التي “تتبدل أحياناً إلى المانيا” — أي إلى نشاط مفرط وجنون.

وفي المعتقد الشعبي، كان يقال إن الشخص الذي “تتقلب حالته فجأة” يتداول فيه الجن: جني ناري يثيره في الهوس، وآخر ترابي يخمده في الحزن ، أما الصوفيون ففسروا الأمر بأنه صراع بين النور والظل داخل النفس — امتحان للروح الساعية إلى الفناء في الله.

أخلاط الجسم : تفسير قديم

في الطب القديم، وخصوصاً في الفكر الإغريقي والعربي الوسيط، كان يُعتقد أن توازن أخلاط الجسم الأربعة  : الدم، والبلغم، والصفراء والسوداء هو ما يحكم المزاج والصحة الجسدية والعقلية للإنسان، هذه الأخلاط كانت تمثل عناصر الطبيعة الأربعة: الهواء، والماء، والنار، والتراب، ويُفترض أن الإنسان السليم يمتلك توازناً بينها، أما اختلالها فيؤدي إلى المرض.

وعندما تغلب السوداء (المزاج الترابي البارد الجاف)، فإنها تُحدث ما كان يُسمى المالنخوليا أو “السوداوية”، وهي حالة من الكآبة العميقة، والخوف غير المبرر، والأفكار الوسواسية.

أما إذا غلبت الصفراء (النارية الحارة الجافة)، فإنها تُشعل في النفس المانيا، أي الهوس والانفعال والنشاط المفرط، حيث يفقد الإنسان اتزانه بين العقل والعاطفة.

هكذا فسر الأطباء القدماء التناقض بين المانخوليا (الاكتئاب) والمانيا (الهوس)، معتبرين أنهما وجهان لاختلال واحد في توازن الأخلاط، بين برودة تغلق النفس على حزنها، وحرارة تفتحها على جنونها.



أنواع الاضطراب وثنائية المزاج

يقسم الطب الحديث المرض إلى ثلاثة أشكال رئيسية:

النوع الأول Bipolar I

تظهر فيه نوبات هوس شديدة قد تصل إلى فقدان الوعي بالواقع، تليها فترات اكتئاب عميقة ، هذا الشكل هو الأكثر درامية وخطورة.

النوع الثاني Bipolar II

تكون نوبات الهوس فيه أخف (تسمى هيبومانيا)، بينما تكون فترات الاكتئاب أطول وأثقل.

النوع الدوري الخفيف Cyclothymia

تقلبات مزاجية مزمنة تمتد لسنوات، لكنها لا تبلغ شدة النوعين السابقين.

وقد يتناوب المريض بين الأقطاب خلال أسابيع أو أيام أو حتى في اليوم ذاته وهي ما تُعرف بـ الدورات السريعة Rapid Cycling.

 وجوه شهيرة عاشت ثنائية القطب

عبر التاريخ، أصابت هذه الحالة العديد من العباقرة والفنانين الذين صاغوا ملامح الحضارة الإنسانية، وكأن المرض منحهم نافذة إلى عوالم لا يراها الأسوياء:



فنسنت فان غوخ 

عاش نوبات من الهوس الإبداعي رسم خلالها تحفاً مثل ليلة النجوم، ثم انحدر إلى اكتئاب قاتل أنهى حياته.

إرنست همنغواي 

كان يتنقّل بين نشاط جنوني وإبداع غزير، واكتئاب قاتل انتهى بانتحاره.

فرجينيا وولف 

عبّرت في كتاباتها عن صراع الداخل والخارج، بين نور الفكر وظلمة الحزن.

بيتهوفن 

موسيقاه العاصفة كانت انعكاسًا لاضطرابات مزاجية متكررة بين النشوة واليأس.

إسحاق نيوتن 

رُصدت في يومياته نوبات هوس حاد أعقبها انهيارات اكتئابية طويلة.

وفي عالمنا العربي

رُويت عن بعض الشعراء والمتصوفة قصص تُشير إلى حالات مماثلة، لكنهم فسروها بأنها جذب روحي أو حال من الفناء الإلهي.

التفسير العلمي الحديث: صراع داخل الدماغ

لم يعد الطب الحديث يرى ثنائية القطب كجنون، بل كـ خلل في توازن كيمياء الدماغ، خصوصاً في النواقل العصبية:

- الدوبامين (يرتفع في الهوس)

- السيروتونين والنورإبينفرين (ينخفضان في الاكتئاب)

كما أظهرت الدراسات الحديثة أن المرض يرتبط بـ:

- استعداد وراثي قوي (جينات تتحكم بتنظيم الإشارات العصبية).

- اضطراب الإيقاع اليومي للنوم والهرمونات.

- تغيرات في نشاط الفص الجبهي واللوزة الدماغية، وهما مركزا الانفعال والقرار.

وبعبارة أخرى: الدماغ لا يعرف الاتزان، فيتأرجح بين تسارع الكهرباء وركودها، كما لو أن مفتاح الضوء عالق بين التشغيل والإطفاء.

العلاج الحديث: من الكيانات إلى الكيمياء

رغم أنه لا شفاء تام حتى اليوم، إلا أن الطب حقق تقدماً هائلاً في السيطرة على المرض:

1- العلاج الدوائي

- الليثيوم: حجر الزاوية في تثبيت المزاج منذ منتصف القرن العشرين.

- الفالبروات والكاربيمازيبين: مضادات صرع تُستخدم لتثبيت المزاج.

- مضادات الذهان الحديثة: لتخفيف نوبات الهوس أو الذهان المصاحب.

2- العلاج النفسي والسلوكي

العلاج المعرفي السلوكي (CBT) يساعد المريض على التعرف إلى أنماط أفكاره وتنظيمها ، كما يُستخدم التعليم النفسي (psychoeducation) لمساعدة الأسرة على فهم المرض ودعم المريض بدل وصمه.

3- نمط الحياة

الالتزام بالنوم المنتظم، تجنب الكحول والمنبهات، ممارسة الرياضة اليومية، والتغذية المتوازنة — جميعها تقلل خطر الانتكاس إلى أدنى حد ، وقد أكدت الدراسات الحديثة أن المرضى الملتزمين بالعلاج والروتين يعيشون حياة طبيعية تماماً.

بين الأسطورة والطب

لقد قطع الإنسان رحلة طويلة في فهم هذا المرض ، من تفسيره كـ مس شيطاني أو لمسة إلهية إلى رؤيته كاضطراب في الشبكات العصبية ، لكن يبقى شيء من الغموض قائماً ، فكيف لخلل كهربائي في الدماغ أن يُنتج شعراً خالداً ولوحات خالدة ؟ ، ربما لأن ثنائية القطب ليست مجرد مرض، بل نافذة على ازدواجية الوجود نفسه: نور وظلام، إبداع وجنون، موت وحياة في جسد واحد.

وفي الختام ، ليست ثنائية القطب لعنة ولا هبة مطلقة، بل اختبار للتوازن بين قوى متناقضة داخل الإنسان ، فحين يختل هذا التوازن، قد يولد الجنون، أو يولد الفن... وربما كلاهما معاً.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".


إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ