منذ أقدم العصور، ظل الإنسان مأخوذاً بالظواهر الغامضة التي تتجاوز حدود الحواس والعقل. التخاطر، الرؤى الاستبصارية، تحريك الأشياء عن بعد، الأصوات الشبحية، تجارب إقتراب الموت… كلها ألغاز أثارت التساؤل حول: هل هي أوهام ؟ أم أنها إشارات على وجود طاقات لم يكتشفها العلم بعد ؟ ، في هذا السياق وُلد الباراسيكولوجي (Parapsychology) او "ما وراء علم النفس" ، الذي سعى لتفسير تلك الظواهر ضمن إطار علمي، لكنه ظل محاطاً بالرفض والاتهام بالزيف.
ظروف النشأة
ظهر الاهتمام الأكاديمي بالظواهر الماورائية في القرن التاسع عشر، متزامناً مع انتشار حركة تحضير الأرواح (Spiritualism) في أوروبا وأمريكا ، في عام 1882 تأسست الجمعية البريطانية للبحوث النفسية (SPR) كأول مؤسسة تبحث في التخاطر والأشباح وتسجيل الظواهر، لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع العالم الأمريكي جوزيف بانكس راين (J. B. Rhine) في جامعة ديوك بالثلاثينيات، حيث ابتكر تجارب إحصائية باستخدام بطاقات زينر لدراسة التخاطر والاستبصار ، رغم المحاولات، لم يُعترف بالباراسيكولوجي كعلم مستقل، وبقي على هامش الجامعات، مرتبطاً أكثر بالفضول الفلسفي والروحاني.
الفلسفة الماورائية
بعض الباحثين ربطوا الباراسيكولوجي بفلسفة وحدة الوجود، حيث يُعتبر الوعي طاقة ممتدة في الكون ، ويوصف مصطلح الترنم الطاقي مع الأرواح كحالة وجدانية من التناغم مع آثار الوعي الآخر ، لكنه في النهاية يظل أقرب للروحانيات والتصوف، لا للعلم التجريبي ، إقرأ عن تجربة الترنم مع راسبوتين التي وجهناها كدعوة من موقعنا موقع ما وراء الطبيعة PARANORMAL ARABIA.
في مطلع القرن العشرين، حاول بعض الباحثين ربط الظواهر الماورائية بـ"الأثير" الذي كان يُعتقد أنه الوسط الذي تنتقل عبره الأمواج التي تحمل الأفكار والعواطف. بعد أن رفضت الفيزياء الحديثة وجود الأثير، بقي بعض أنصار الباراسيكولوجي يستعملون الفكرة بشكل رمزي لتفسير انتقال الأفكار أو الطاقة "غير المرئية".
الأشباح والأصوات الغامضة
يطرح الباراسيكولوجيون فرضية أن الأماكن قد تختزن بصمة طاقية لأحداث أو أشخاص أو انطباعات عاطفية قوية من أشخاص عاشوا فيه أو ماتوا فيه ويسمى بـ الأثر الطاقي Residual Energy. وتظهر كأصوات غامضة أو ظلال شبحية لكن العلم التقليدي يفسرها غالباً عبر الموجات تحت السمعية (Infrasound) أو اضطراب المجالات الكهرومغناطيسية أو في ظاهرة الباريدوليا (إسقاط المعنى على الضجيج أو الصور الغامضة) أو الأبوفنيا.
الترنم الطاقي مع الراحلين
بعض المنظرين في الباراسيكولوجي يرون أن وعي الإنسان لا يختفي تماماً، بل يظل كحقل طاقي يمكن أن يُلتقط في لحظات خاصة، أي أن الإنسان قد يترك أثراً طاقياً أو وعياً ممتداً بعد الموت Extended Consciousness ، وتجارب الترنم تتجلى في أحلام لقاء الراحلين وتسجيل الأصوات الشبحية (EVPs) الوساطة الروحية عبر التنويم أو الغيبوبة ، يرى الباراسيكولوجيون أن هذه الظواهر ليست تواصلاً مع الروح بالمعنى الديني، بل انسجام مع أثر نفسي-طاقي، وإن كان ذلك بلا إثبات تجريبي صارم.
الوسيط الروحاني
في الروحانية الدينية يُعتبر الوسيط قناة بين الأحياء والأرواح، أما في الباراسيكولوجي، فقد عومل الوسيط على أنه مولد لأثر طاقي يمكن أن يُفسر الظواهر الماورائية ، بعض التجارب فسرت الظواهر مثل تحريك طاولة أو سماع أصوات غامضة بأنها طاقة نفسية غير معروفة ، لكن الدراسات الحديثة فسرت أغلب تلك الحالات بالخداع أو الإيحاء النفسي، مما قلل من مصداقية هذا التفسير الطاقي.
المعتقدات الدينية في منظور الباراسيكولوجي
لا يتبنى الباراسيكولوجي مفاهيم مثل الجن أو الملائكة أو الشياطين كحقيقة علمية ، لكنه يدرس كيف تؤثر الخلفية الثقافية والدينية على تفسير الظواهر ، فالمسلم يفسرها جناً والمسيحي يراها شياطين والهندوسي يراها أرواحاً محلية ، بمعنى أنه يستعملها كمواد أنثروبولوجية أكثر من كونها معطيات علمية.
مجالات البحث في الباراسيكولوجي
تبحث الباراسيكولوجي في عدة مجالات من الماورائيات :
- التحريك عن بعد (Psychokinesis): تحريك الأشياء أو التأثير فيها بالطاقة الذهنية.
- الظواهر الروحية: الأشباح، الأصوات الغامضة، الأشباح الضاجة (Poltergeist) المسؤولة عن التسبب بأذى أو تحريك أغراض.
- تجارب الاقتراب من الموت (NDE): رؤية النور، الإحساس بالانفصال عن الجسد.
- التنويم المغناطيسي: وسيلة للتجارب الذهنية، ولاسترجاع ذكريات مزعومة عن "حيوات سابقة" ، ولاختبار إمكانية التخاطر، أو أداة للدخول في حالات وعي مغايرة altered states غير أن معظم نتائجه فُسرت لاحقاً على أنها إيحاء نفسي وتخيل موجه.
أمثلة على التجارب
التواصل عبر الوسيط
الوسيط الروحاني يدخل في حالة شبه غيبوبة، ويزعم أنه يستقبل رسائل أو أحاسيس من المتوفى. الباراسيكولوجيون يفسرون ذلك أحياناً بأنه تقاطب طاقي بين وعي الوسيط وبين "أثر الراحل".
ظواهر "التسجيلات الطيفية"
حيث يدعي الباحثون أن أصواتاً غامضة يجري التقاطها في أجهزة التسجيل بما يعرف بـ ظاهرة الصوت الإلكترونيEVP ، ويُقال إنها "ترنيمات طاقية" من الراحلين. التفسير الباراسيكولوجي هنا: ربما يكون الوعي البشري يؤثر على الأجهزة الدقيقة في ظروف معينة.
الأحلام والرؤى بعد الوفاة
كثير من التجارب التي تُسجل هي لقاءات مع المتوفين في المنام. الباراسيكولوجي يفسرها أحياناً بأنها إسقاط نفسي طاقي، أو توافق مع أثر الذاكرة القوي للراحل.
الذكريات المستحضرة عبر التنويم المغناطيسي
في بعض التجارب، يتم إخضاع شخص للتنويم، فيتحدث كما لو كان "المتوفى" أو يستحضر تفاصيل عن حياته. التفسير هنا لا يكون بالضرورة تناسخاً، بل انسجام مع أثر طاقي مسجَّل في اللاوعي الجمعي أو في المكان.
المصداقية العلمية

وبالتالي، يمكن القول إن الباراسيكولوجي يقف خارج الإطار العلمي المعتمد، بينما الحقول الأخرى تحاول تفسير نفس الظواهر بوسائل مادية قابلة للقياس.
لهذا يضع المجتمع العلمي الباراسيكولوجي "ما وراء علم النفس" في خانة العلم الزائف (Pseudoscience) ، حتى أن تجارب "راين" لم تُثبت بالتكرار ، وجرى تفسير معظم الظواهر لاحقاً بأسباب فيزيائية أو نفسية لذلك ظل الحقل مثيراً للجدل أكثر من كونه فرعاً معترفاً به.
الباراسيكولوجي اليوم
ازدهر الباراسيكولوجي بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي بدعم من معاهد وجامعات ، ومنذ التسعينيات تراجع وجوده الأكاديمي، وبقي في جمعيات مستقلة وأبحاث متفرقة في "علم الوعي" وفي الثقافة الشعبية (أفلام، روايات، ألعاب) ، اليوم ، يبقى أثره العلمي محدود، لكن حضوره الإعلامي والثقافي لا يزال قوياً.
في الختام ، يظل الباراسيكولوجي مرآة لفضول الإنسان تجاه الماورائيات ، قد لا يكون علماً معترفاً به، لكنه يفتح أبواب النقاش حول حدود العقل والحواس. وبينما يرفضه العلماء باعتباره غير تجريبي، يظل بالنسبة للكثيرين مجالاً مثيراً يربط بين العلم والفلسفة والروحانية، ويغذي عطش الإنسان لفهم المجهول.
إقرأ أيضاً ...
- ما وراء الطبيعة بين علم النفس والدين والباراسيكولوجي
- الموقف من الماورائيات : بين إيمان وإنكار وبحث
- التفسيرات العلمية لظاهرة الأشباح
- مسكون بالأشباح أم بالمجال الكهرومغناطيسي ؟
- تأملات باحث في الماورائيات بعد سنوات من التيه
- ما وراء الطبيعة: الدليل الشامل لفهم الظواهر الخارقة
- ما وراء الطبيعة : أعمق من مسلسل نتفليكس أو رواية في سلسلة
- بين ما وراء الطبيعة والميتافيزيقا : الأركان الخمسة للمجهول
- ما وراء موقع ما وراء الطبيعة
- ما وراء الطبيعة كموقع "للتسلية والخيال"
- جن يطرق باب موقع ما وراء الطبيعة ليعرض خدماته !
- ما وراء الطبيعة بين علم النفس والدين والباراسيكولوجي
- سلسلة ما وراء الطبيعة : قراءة نقدية شاملة لأدب أحمد خالد توفيق
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .