17 أغسطس 2025

الأشباح الضاجة: حين يتحول البيت إلى ساحة فوضى غير مرئية

الأشباح الضاجة المشاغية - أفعال الشياطين والجن
إعداد :  كمال غزال

منذ أقدم العصور، لم يتوقف الإنسان عن التساؤل: هل بيوتنا آمنة حقاً ؟ ، في لحظة سكون قد يعلو صوت طرق غامض على الجدار، أو تتحرك طاولة من مكانها دون أن يلمسها أحد، أو تتناثر الأطباق على الأرض فجأة.

 في مواجهة هذه الظواهر وقف البشر بين مصدّق ومكذّب، بين من يراها عبثاً من الأرواح والجن، ومن يحاول أن يجد لها تفسيراً في العقل البشري أو قوانين الفيزياء،  هذه هي ظاهرة الأشباح الضاجّة Poltergeist، التي ما زالت إلى اليوم تمثل أحد أعقد ألغاز الماورائيات وأكثرها إثارة للرعب والجدل.

ما هي الأشباح الضاجّة أو المشاغبة ؟

المصطلح ألماني الأصل، يعني حرفياً "الروح الصاخبة" بعكس الأشباح التقليدية التي قد تظهر كطيف صامت أو ظل عابر، فإن الأشباح الضاجّة عدوانية ومشاغبة وهذا يترافق مع إصدار أصوات طرق وقرع وصخب ، تحرّك الأشياء والأثاث بعنف ، تحطم الزجاج والأواني ، وأحياناً تهاجم سكان البيت جسدياً بالصفع ، القرص ، شدّ الشعر أو حتى الخنق.

الأغرب أن هذه الظواهر تتمحور غالباً حول شخص بعينه، وغالباً يكون مراهقاً أو شاباً في سن البلوغ، وكأن عواطفه أو طاقته النفسية هي "مركز الحدث".


قصص موثقة تاريخياً

في روما القديمة روى المؤرخ بليني الأصغر قصة بيت في أثينا ظهر فيه شبح عجوز مقيد بسلاسل يثير الجلبة ليلاً.

ألمانيا (856م): أول حادثة موثقة لشبح ضاجّ؛ أسرة تعرضت لرمي حجارة وإشعال حرائق غامضة داخل المنزل.

إنجلترا (1661): "طبّال تيدوورث" الذي دوّى صوت طبلته الغامضة ليلاً، واعتبره الناس عملاً شيطانياً.

أمريكا (1817): "ساحرة بيل" في تينيسي؛ واحدة من أشهر الحوادث، حيث عانت عائلة بيل من ضربات وأصوات واعتداءات جسدية على ابنتهم.

فرنسا (1846): "الفتاة الكهربائية" أنجيليك كوتان، التي قيل إن الأثاث يتحرك من حولها وكأن جسدها يشحن المكان بطاقة خفية.

كندا (1878): لغز أمهرست العظيم، حيث اندلعت نيران عشوائية وسمع طرق عنيف حول فتاة اسمها إيستر كوكس.

إنجلترا (1977): حادثة "إنفيلد" الشهيرة التي حظيت بمتابعة إعلامية واسعة، وظهرت فيها تسجيلات وصور أثاث يتحرك وأصوات تتحدث عبر الطفلة جانيت.

أمريكا (1989): "مطاردة سان بيدرو" بكاليفورنيا، حيث وثق باحثون حادثة محاولة خنق أحدهم بواسطة قوة خفية.


منظور الأرواح والجن

في الغرب تُفسَّر هذه الظواهر كأرواح موتى معذبة أو شياطين تتلاعب بالأحياء ، وهي متأثرة بأساطير البوغارت Boggart والكوبولد  Kobold التي تعبث في المنازل.

بينما في التراث الإسلامي والعربي تُعزى غالباً إلى الجنّ العامر (عمار المكان) بالبيت أو إلى أعمال السحر الأسود حيث يعالجها الناس بالرقية الشرعية والقرآن ، ولا ننس قصص الجن التي تسكن البيوت المهجورة وترمي الحجارة على المارة ليلاً.

 وفي اليابان عُرفت قديماً باسم ياناري (أنين البيت) حيث تُعزى الأصوات والاهتزازات إلى عفاريت صغيرة تهز الجدران وهذا ما تشهد عليه حكايات "اليوكاي" الصغيرة التي تزعج البيوت.

وفي الهند تُنسب الظاهرة إلى أرواح "البريت" أو "البُهوت" أي أرواح موتى لم يدفنوا كما يجب فتنتقم بإلقاء الحجارة وإشعال النيران التي تحتاج لطقوس تهدئة.

يدل التشابه في هذه القصص من أقصى الشرق إلى الغرب على أن الإنسان في كل مكان واجه الظاهرة نفسها وفسرها وفق ثقافته ومعتقداته.

النيران الغامضة وعلاقتها بالأشباح الضاجّة

من السمات التي تكررت كثيراً في تقارير الأشباح الضاجّة هي اندلاع حرائق صغيرة في أماكن غير متوقعة داخل المنازل:

- في حادثة أمهرست (كندا 1878)، ذكرت الشابة إيستر كوكس أن كتلاً من اللهب كانت تتشكل فجأة في الهواء وتسقط على الملاءات أكثر من مرة، وهو ما دفع الناس لاتهام الشيطان أو روحاً شريرة بأنها وراء الحادثة.

- في أول حادثة موثقة بألمانيا عام 856م، سجلت السجلات أن "الأرواح الضاجة" هناك لم تكتفِ برمي الحجارة بل أشعلت نيراناً تلقائياً في بيت الأسرة.

- في فبراير 2025، عاشت مدينة الأصابعة الليبية على وقع ظاهرة غريبة أربكت الأهالي والسلطات: اندلاع حرائق مفاجئة التهمت أكثر من مئة منزل بلا سبب واضح. 

لم تُسجَّل عواصف أو ماس كهربائي عام، ومع ذلك استمرت النيران بالاشتعال والانطفاء ثم العودة بشكل أعنف، حتى أُصيب عدد من السكان بالاختناق. بين من عزاها لتسرب غاز الميثان أو تفاعلات بيئية مجهولة، ومن ربطها بأعمال السحر والجن، بقيت الأصابعة عنواناً لحادثة صاخبة هزّت بلدة بأكملها وما زالت لغزاً مفتوحاً في تاريخ ليبيا الحديث.


حتى في العصر الحديث، هناك تقارير عن احتراق ملابس أو ستائر بشكل غامض في منازل يقال إنها مسكونة.

هذا النوع من الظواهر يثير حيرة خاصة لأنه يمس عنصر النار الذي يوحي بخطر مباشر على حياة السكان، ويعطي وزناً لتفسير أن الكيان المتسبب ليس مجرد روح عابثة بل قوة مؤذية عن عمد.

في بعض الثقافات (العربية والهندية مثلاً) ارتبط إشعال النار الغامض بالجن والشياطين، حيث يُعتقد أن الجن "عنصره النار"، وبالتالي قدرته على إحداث الحرائق أو التحكم باللهب جزء من طبيعته.

منظور ما وراء النفس - الباراسيكولوجيا

يرى بعض الباحثين أن الظاهرة نتاج العقل الباطن، خصوصاً عند المراهقين ، حيث صاغ وليام رول مصطلح الحركية النفسية التلقائية المتكررة (RSPK)، أي أن الضغط النفسي يولد طاقة خفية تحرك الأشياء بلا وعي من صاحبها ، وأشارت دراسات أخرى إلى صلتها بالهستيريا أو رغبة بعض الأطفال في لفت الانتباه عبر الخداع أو اختلاق الحوادث.


الحركية النفسية التلقائية المتكررة (RSPK)

تعتبر من أبرز التفسيرات العلمية/الباراسيكولوجية لظاهرة الأشباح الضاجّة هو ما صاغه العالم ويليام ج. رول في ستينيات القرن العشرين، تحت مصطلح: Recurrent Spontaneous Psychokinesis (RSPK) أي: الحركية النفسية التلقائية المتكررة.

يرى رول أن الظواهر المنسوبة للأشباح الضاجّة لا تصدر عن كائن خارجي، بل عن طاقة نفسية لاواعية من شخص حيّ يعيش في المنزل ، هذا الشخص غالباً يكون مراهقاً أو شاباً في سن البلوغ، يعيش تحت ضغط نفسي أو عاطفي شديد ، حين يبلغ الضغط ذروته يتسرّب من عقله الباطن فيض من الطاقة النفسية أو العصبية يتجسد في العالم المادي بشكل حركات للأشياء أو أصوات.

أهم خصائص RSPK

- تكرار الظاهرة: فهي ليست ومضة واحدة، بل تحدث على مدى أيام أو شهور متقطعة.

- ارتباطها بشخص معين: الظاهرة تختفي إذا غاب ذلك الشخص عن المكان، وتعود بعودته.

- اللاإرادية: صاحب "الطاقة" لا يدرك أنه السبب، بل يكون خائفاً مثل غيره.

- طابعها العاطفي: غالباً تظهر في لحظات شحن نفسي كبير -  خلافات أسرية، توتر، كبت عاطفي.

لماذا المراهقون تحديداً ؟

فترة المراهقة تتميز باضطرابات هرمونية وعاطفية قوية ، كثير من حالات الأشباح الضاجّة في التاريخ ارتبطت بمراهقات (مثل إنفيلد، أنجيليك كوتان، إيستر كوكس) ، وقد يكون اللاوعي في هذه المرحلة أقدر على "تفريغ" طاقة مكبوتة بطرق غير مفهومة بعد.

مدى قبول النظرية

في الأوساط الباراسيكولوجية، لاقت RSPK صدى كبيراً باعتبارها جسراً بين الظاهرة الخارقة والتحليل النفسي ، لكن من منظور علمي صارم، لم تُثبت بعد تجريبياً، إذ لم يتمكن أحد من رصد "طاقة" كهذه في المختبر ، رغم ذلك تبقى هذه الفرضية الأكثر منطقية بين التفسيرات غير الدينية، لأنها تفسر لماذا تدور الفوضى عادة حول شخص بعينه وليس أي أحد.


منظور العلم التجريبي

بعض الحالات فسرت بظواهر طبيعية: تيارات هوائية غير عادية، اهتزازات أرضية، أو تسربات غاز سامة تسبب الهلوسة ، كذلك تبيّن أن المجالات الكهرومغناطيسية القوية قد توحي للدماغ بوجود كيان غريب مما يجعل الإنسان يفسر أي صوت عادي كعلامة شبحية.


وفي الختام ، تقف ظاهرة الأشباح الضاجّة عند الحد الفاصل بين الأسطورة والواقع ، قد تكون في بعض الحالات مجرد خدعة أو وهم نفسي وقد تكون في حالات أخرى لغزاً لم يكشف العلم خيوطه بعد ، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن هذه الحوادث – سواء كانت من فعل العقل البشري أو عالم غامض موازٍ – تترك أثراً عميقاً في من يعيشها ، ربما لهذا السبب ما زال مصطلح Poltergeist حياً في الذاكرة الجماعية، يستحضر الرعب كلما اهتز جدار فجأة أو سقطت كأس دون سبب.

تبقى الأشباح الضاجّة تذكيراً أن أكثر الأماكن ألفة -  منازلنا -  قد تتحول أحياناً إلى مسرح للقوى الخفية ويبقى السؤال مفتوحاً: هل نحن فعلاً وحدنا بين جدران بيوتنا، أم أن هناك من يشاركنا السكن بصمت… إلى أن يقرر أن يعلن عن نفسه بالضوضاء ؟

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ