في قرى معزولة على أطراف الصحراء، لا تزال ظلال السحر والخرافة تلقي بثقلها على حياة الناس، وتتحول أحياناً إلى أداة اجتماعية لإقصاء المختلف.
ففي مناطق من جنوب الجزائر، وموريتانيا، والسودان، تحدث حتى اليوم حوادث تتهم فيها نساء - غالباً فقيهات، أو منعزلات، أو ببساطة "غريبات" - بأنهن ساحرات أو أن لديهن "نفَساً مسموماً" قادراً على جلب الشؤم أو المرض أو التفرقة ، ورغم ما يُقال عن اندثار مثل هذه الممارسات في العالم العربي، فإن الوقائع على الأرض تقول غير ذلك.
النفث والسحر: حين يُتهم النظر بأنه لعنة
في تلك المجتمعات التي تتشابك فيها التقاليد الصحراوية مع الموروثات الإفريقية الإسلامية، مثل ثقافتي الهوسا والفولاني، يحمل مفهوم "السحر" معاني تتجاوز التعويذات والأعمال. يكفي أن تُعرف امرأة بأنها تنظر نظرة "حادة"، أو تهمس بكلمات غير مفهومة، حتى تُتهم بممارسة النفث وهو نوع من "السحر الخفي" يُعتقد أنه يُستخدم في الحسد، والمرض، والتفريق بين الناس.
وغالباً ما تُوجه التهمة إلى: امرأة تعيش وحدها دون زوج أو أولاد ، أو امرأة جريئة أو صريحة أو تظهر استقلالًا غير مألوف ، أو وافدة غريبة لا يعرفها أبناء القرية ، أو حتى امرأة كبيرة في السن تظهر عليها علامات الغموض أو العزلة ، وفي بعض الحالات، يُعتقد أن مجرد وجود المرأة في مكان ما قد يفسد اللبن أو يقتل الماشية أو يُمرض الأطفال.
من الاتهام إلى العقاب: العنف باسم النقاء
الاتهام لا يبقى كلاماً عابراً ، فباسم "التطهير"، قد تُجبر النساء على: حرق أدواتهن الشخصية بحجة أنها محمّلة بالشر ، حلق وحرق شعر الرأس أو الجسم بهدف "إبطال الأثر" ، الضرب بالعصا أو السياط أمام الملأ بحجة "تطهير القرية من الشر" ، أو نفي المرأة خارج المجتمع، وغالباً دون رجعة.
في حالات نادرة، وخاصة عندما تتورط جماعة كاملة في هستيريا جماعية، قد تؤدي هذه الاتهامات إلى القتل غير المباشر من خلال التنكيل أو الطرد في بيئة قاسية لا ترحم ، ورغم أن هذه العقوبات لا تصدر عن محاكم رسمية، فإنها تُنفذ بقبول جماعي ضمني، ويصعب أحياناً على الضحية اللجوء إلى السلطات، إما بسبب بعدها عن مراكز الأمن، أو بسبب خوفها من الانتقام الاجتماعي.
بين التقاليد والجهل: أين يختبئ السبب ؟
تكشف هذه الظاهرة عن نقاط التقاء خطيرة بين عدة عوامل:
- الجهل وقلة التعليم، حيث تُقدّم الخرافة كحقيقة لا تُناقش.
- السلطة الذكورية، التي ترى في المرأة المستقلة تهديدًا يجب إخضاعه.
- المنظومة الدينية الشعبية، التي تخلط بين الشعوذة والتصوف، وبين الرقية والخرافة.
- الخوف من المجهول، وهو دافع إنساني يتحول بسهولة إلى عنف جماعي في المجتمعات المعزولة.
شهادات مرعبة بلا توثيق
في بعض المناطق الحدودية بين موريتانيا والسنغال، روت نساء أنهن كن ضحايا جلسات "تطهير" قاسية، أُجبرن فيها على شرب أعشاب مقززة، أو على الاعتراف بأمور لم يقمن بها قط. وفي جنوب الجزائر، ظهرت تقارير متفرقة عن ضرب نساء مسنات حتى الإغماء بعد الاشتباه في أن "نظرتهن تجلب الموت للأطفال"، وكل ذلك بدون دليل أو محاكمة.
لكن معظم هذه الحوادث لا يتم توثيقها رسمياً، إما لأنها لا يتم الإبلاغ عنها، أو لأنها تُعتبر "أموراً مجتمعية" تُحل ضمن الأعراف، لا القانون.
هل من أمل في التغيير ؟
على الرغم من صعوبة اختراق البُنى التقليدية في تلك المجتمعات، إلا أن هناك مؤشرات إيجابية:
- منظمات حقوقية نسوية بدأت بإطلاق حملات توعية في المناطق النائية.
- بعض الأئمة والمشايخ المستنيرين بدأوا بتفنيد هذه المعتقدات الخاطئة علناً في خطب الجمعة.
- برامج إذاعية وتلفزيونية محلية بدأت تطرح هذه القضايا، ولو بتحفظ.
- وتشهد بعض المدارس في المناطق الريفية جهوداً تعليمية تحاول فك الربط بين السحر والمرأة، والتوعية بحقوق الإنسان.
سحر الخرافة أقوى من الحقيقة ؟
في مجتمعات الصحراء التي تتعامل مع الطبيعة بقداسة وريبة في آنٍ معاً، لا تزال بعض النساء يدفعن ثمن اختلافهن، أو استقلالهن، أو مجرد وجودهن في المكان الخطأ. إنها محاكمات من نوع خاص، لا قاضٍ فيها إلا الخوف، ولا شهود فيها إلا الهواجس، ولا حكم فيها إلا العقاب.
وربما آن الأوان لأن يُسلط الضوء بجدية على هذه القضايا المهملة، ليس فقط كقضية حقوق نساء، بل كقضية كرامة إنسانية في وجه الجهل والخرافة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .