في تاريخ الولايات المتحدة، قلما نجد حادثة جمعت بين الخوف، والدين، والسياسة، والعدالة الملتبسة مثلما فعلت محاكمات ساحرات سالم عام 1692. هذه الواقعة التي بدأت في إحدى القرى الصغيرة في مستعمرة ماساتشوستس، تحولت خلال أشهر قليلة إلى واحدة من أكثر الفصول ظلمةً في التاريخ الأميركي، وما زالت تُستحضر حتى اليوم كرمز لـ الهستيريا الجماعية وسوء استخدام السلطة القضائية.
مجتمع يعيش تحت ظل الخوف
في أواخر القرن السابع عشر، كانت ماساتشوستس لا تزال مستعمرة بريطانية تُحكم بنظام ديني صارم مستمد من المبادئ البيوريتانية (المتطهرون البروتستانت). وكان الإيمان المطلق بوجود الشيطان، والسحر، واللعنات، شائعاً بين السكان. حيث كانت تُفسر غالباً أي ظاهرة غريبة مثل موت مفاجئ لحيوان أو مرض غير مفهوم بأنها نتيجة لتأثير السحر أو تدخل من قبل "ساحرة" ، في هذا المناخ المشحون بالخوف والتدين المتشدد، كانت الشعوذة تُعد تهديداً حقيقياً للنظام الديني والاجتماعي.
البداية في فبراير 1692
في فبراير من عام 1692، بدأت الأمور تتخذ منحى أكثر ظلمة حينما أُصيبت فتاتان صغيرتان - بيتي باريس وأبيجيل ويليامز - بنوبات صراخ وتشنج غير مبرر ، وحين عجز الأطباء عن تفسير حالتهما، أُلقي اللوم على السحر ، تحت الضغط، اتهمت الفتاتان ثلاث نساء: تيتوبا (خادمة من أصول إفريقية أو أمريكية أصلية)، وسارة جود (امرأة فقيرة)، وسارة أوزبورن (امرأة اعتُبرت منحرفة دينياً) ، ومع توالي الأحداث بدأت دائرة الاتهام تتسع لتشمل النساء والرجال والأطفال وحتى بعض الشخصيات البارزة في المجتمع.
مجريات المحاكمات وأعداد الضحايا
مع تصاعد الذعر، أُنشئت محكمة خاصة تُدعى محكمة الجلسات العظمى والبت النهائي في قضايا السحر Oyer and Terminer، وبدأت التحقيقات ومحاكمات سريعة للمتهمين، بناءً على شهادات ضعيفة أو رؤى وأحلام تم استخدامها كأدلة. وغالباً ما كانت تُقبل شهادة من يقول إنه رأى روح المتهمة تؤذيه في الحلم، وهو ما عُرف بـ"الدليل الطيفي".
في شهر فبراير من عام 1692 بدأ تحقيق مع مواطنين بعد اتهامهم بممارسة الشعوذة والسحر في ماساتشوستس التي كانت مستعمرة بريطانية سابقة قبل أن تتحول إلى ولاية أمريكية لاحقاً عند التحرير، وفي غضون السنة التالية جرى اعتقال 150 شخصاً حيث لقي 20 منهم عقوبة الإعدام شنقاً وليس حرقاً، على عكس الاعتقاد الشائع.
رغم أن القوانين الأوروبية الأخرى كانت تشجع على الإعدام حرقاً كوسيلة للتطهير من الشعوذة، فإن هذه العقوبة كانت محرمة في ماساتشوستس، وذلك لأن النظام القضائي كان يسير تحت القانون البريطاني، والذي لا يجيز الحرق.
وكنتيجة لذلك، ماتت جميع "المشعوذات" شنقاً، فيما عدا جيلز كوري، الذي جرى سحقه بالحجارة حتى الموت بسبب رفضه للمحاكمة. كانت هذه عقوبة من يرفض المثول أمام المحكمة، حيث جُرد من ملابسه ثم جرى وضع لوح خشبي ثقيل على صدره، ثم تُضاف عليه الحجارة تدريجياً حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو ما حدث فعلًا مع كوري الذي ظل يردد: " أضيفوا المزيد من الحجارة ! ".
نهاية المأساة والاعتراف بالخطأ
مع مرور الوقت، بدأت الشكوك تزداد حول عدالة المحاكمات، خاصة بعد أن شملت الاتهامات زوجة حاكم المستعمرة، ما دفع الأخير إلى التدخل وحل المحكمة في أكتوبر 1692. وفي العام التالي، أُفرج عن معظم المعتقلين.
وفي عام 1702، أعلنت السلطات أن المحاكمات كانت غير قانونية، وفي عام 1711 صدر قانون لتعويض بعض أسر الضحايا. لكن الاعتراف الكامل بالخطأ تأخر حتى عام 1957، عندما أصدرت ولاية ماساتشوستس اعتذاراً رسمياً، وأعادت الاعتبار لبعض الضحايا ، وفي عام 2001 تم الاعتراف بجميع الضحايا قانونياً كمظلومين، وتمت تبرئتهم بالكامل.
هستيريا جماعية أم صراع مصالح ؟
رغم مرور أكثر من ثلاثة قرون، لا يزال الباحثون يتساءلون: كيف حدث هذا الجنون الجماعي ؟ وقد برزت عدة تفسيرات:
التفسير النفسي
يرى بعض الباحثين أن الفتيات المصابات كن يعانين من نوبات نفسية حادة أو اضطرابات هيستيرية جماعية.
التفسير الاجتماعي
التوترات بين العائلات، والانقسامات الطبقية، والنزاعات العقارية بين سكان سالم قد تكون وراء تحريك موجة الاتهامات.
الغيرة الدينية
محاولات فرض النقاء الديني في مجتمع منقسم ربما جعلت من السحر كبش فداء.
الهلوسة بسبب التسمم
هناك فرضية مثيرة تقول إن بعض المتهمين وربما الشاهدين كانوا تحت تأثير مادة "إرغوت" – فطر ينمو على القمح ويمكن أن يسبب هلوسات.
إرث "سالم" في الثقافة الأمريكية
خلّفت محاكمات سالم أثراً عميقاً في الوعي الأمريكي، وتحولت إلى رمز لظلم القضاء تحت ضغط الجماهير والخوف الديني. كما أصبحت مرجعاً يستخدم في نقد مكارثية الخمسينيات حين تم اتهام العشرات بالشيوعية دون أدلة حقيقية.
وقد استوحى منها الكاتب آرثر ميلر مسرحيته الشهيرة The Crucible (البوتقة)، التي جسدت ببراعة كيف يمكن أن تتحول الشكوك الصغيرة إلى آلة تدمير جماعي.
محاكمات ساحرات سالم ليست مجرد حادثة تاريخية، بل درسٌ دائم حول خطورة الذعر الجماعي، واستخدام الدين لتصفية الحسابات، وغياب العدالة تحت غطاء القانون. إنها حكاية عن بشر خافوا من المجهول فاختاروا أن يصنعوا له ضحايا، وضحايا دُفنوا دون أن تُمنح لهم فرصة عادلة... إلا بعد قرون.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .