منذ فجر التاريخ، لم تكفّ البشرية عن طرح السؤال المُلِحّ:
هل يمكن العودة من الموت ؟
هل يمكن للروح أن تُسترد للجسد بعد أن برد، وتنبض الحياة في قلب توقف؟ هذا الهوس بالبعث لم يأتِ من فراغ، بل من مئات القصص والأساطير والمعتقدات التي انطلقت من حضارات شتى، وفي قلبها الأديان الكبرى.
هل يمكن العودة من الموت ؟
هل يمكن للروح أن تُسترد للجسد بعد أن برد، وتنبض الحياة في قلب توقف؟ هذا الهوس بالبعث لم يأتِ من فراغ، بل من مئات القصص والأساطير والمعتقدات التي انطلقت من حضارات شتى، وفي قلبها الأديان الكبرى.
في هذا المقال، نغوص بعمق في أكثر من عشرين قصة عبر التاريخ والديانات، من العراق القديم إلى كتابات العهد القديم والجديد، إلى القرآن الكريم. نحلل الرموز ونكشف الخلفيات العقائدية والفلسفية لهذه الظاهرة، متأملين إن كانت عودة الموتى حقيقة روحية، معجزة إلهية، أم تعبير رمزي عن الأمل والبداية الجديدة.
تمّوز : إله العراق القديم العائد كل ربيع
في الميثولوجيا السومرية والأكدية، يظهر تمّوز Tammuz كإله الربيع والخصب، حبيب الإلهة عشتار. يُقال إنه يموت في نهاية الصيف ويُحتَجز في العالم السفلي، وتقوم عشتار بمحاولة تحريره. وتنجح جزئياً، بحيث يُسمح له بالعودة إلى الأرض في فصلي الربيع والصيف.
كان السومريون والبابليون يحيون طقوسًا سنوية تُعرف بـ"بكاء تمّوز"، تعبيراً عن الحزن لغيابه والفرح بعودته، في دورة مرتبطة بتجدد الطبيعة، ولكن تحمل دلالات واضحة على عقيدة البعث والموت الدوري.
بيرسيفوني وهاديس
في الأساطير اليونانية، خُطفت بيرسيفوني، ابنة ديميتر، من قبل هاديس، إله العالم السفلي. بعد مفاوضات مع زيوس، تقرر أن تقضي نصف العام في العالم السفلي، والنصف الآخر فوق الأرض. تلك العودة الموسمية كانت تفسيرًا أسطوريًا لدورة الفصول.
بعث بيرسيفوني ليس بيولوجيًا بقدر ما هو رمزي؛ إنها تمثّل الموت المؤقت والبعث الدوري، تمامًا كما تفعل الزراعة.
أوزوريس : أول بعث إلهي مصري
قُتل الإله أوزوريس Osiris على يد أخيه ست، وقُطعت أوصاله. جمعت زوجته إيزيس أجزاء جسده، وأعادت له الحياة باستخدام قواها السحرية. لكنه لم يعُد ليحكم الأرض، بل أصبح إله العالم السفلي وقاضي الأرواح.
قصة أوزوريس تعدّ من أقدم أساطير البعث، وكان المصريون يعتبرون تحنيط الجسد ضرورة لبعثه في العالم الآخر، وهو تقليد ظل لآلاف السنين.
ساتيافان وسافيتري : البعث بالمحبة في الهندوسية
في ملحمة المهابهاراتا، تحب سافيتري الرجل الفقير ساتيافان، رغم نبوءة موته المبكر. تموت النبوءة فيه، لكن حبها يقودها لمواجهة إله الموت "ياما" وبذكائها وحجتها القوية، تنجح في إقناعه بإعادته للحياة ، هذه القصة ليست فقط عن عودة من الموت، بل عن تفوق الروح على القدر.
بودي دارما – الراهب الذي خرج من القبر بحذاء واحد
في التقاليد البوذية، يُروى أن الراهب بودي دارما، مؤسس زن بوذية في الصين، ظهر لدبلوماسي بعد وفاته بسنوات، وكان يحمل حذاءً واحدًا فقط. وعندما فُتح قبره، تم العثور على فردة الحذاء الأخرى لوحدها. هذه القصة لم تثبت تاريخياً، لكنها ترمز لفكرة أن الموت ليس بالضرورة نهاية الوعي.
أودين – إله الحكمة الذي مات ليعرف
أودين، كبير الآلهة الإسكندنافية، علق نفسه على شجرة "يغدراسيل" تسعة أيام دون طعام أو ماء، وطعن نفسه برمحه، في طقس قرباني لمعرفة أسرار الرونز. في اليوم التاسع، نزل من الشجرة وقد نال الحكمة والبعث.
كويتزالكواتل – الإله العائد في أمريكا الوسطى
في حضارات الأزتك والمايا، يظهر كويتزالكواتل كإله الخير والمعرفة. تقول إحدى الأساطير إنه مات محترقاً أو طُرد إلى الشرق، لكنه وعد بالعودة. ولهذا، عندما وصل الإسبان، اعتقد السكان الأصليون أن كورتيس هو تجسيد لكويتزالكواتل العائد.
الفينيق – طائر البعث العالمي
الفينيق (يقال له العنقاء أحياناً) طائر أسطوري يموت محترقاً ويعود من رماده، عُثر على نسخ من هذه الأسطورة في اليونان ومصر القديمة وبلاد فارس وهي أقوى استعارة للبعث في الأدب العالمي.
قصص البعث في الكتاب المقدس
في العهد القديم
- ابن أرملة صرفة صيدا: النبي إيليا يُقيمه بالدعاء.
- ابن المرأة الشونمية: النبي أليشع يعيده بالحيلة النبوية.
- رجل مسّه عظام أليشع: عاد للحياة بمجرد لمس عظام النبي، دلالة على قدسية الجسد.
في العهد الجديد
- يسوع المسيح: وفق المعتقد المسيحي، تُعد قيامة يسوع المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث بعد صلبه الحدث المركزي والأعظم في العقيدة ، يُؤمن المسيحيون أن يسوع مات على الصليب ككفارة عن خطايا البشر، ودُفن، ثم قام جسدياً من القبر في صباح يوم الأحد، فيما يُعرف بعيد القيامة (الفصح) Easter ، تستند هذه العقيدة إلى شهادات الحواريين الذين قالوا إنهم التقوا بالمسيح بعد قيامته، وتحدثوا معه، ولمسوه، بل وأكل معهم، ما يؤكد في إيمانهم أنه قام حياً لا رمزاً، بل بحياة جسدية حقيقية ممجدة، ليُثبت غلبته على الموت ويفتح باب الخلاص الأبدي للمؤمنين به.
- لعازر (لازاروس) : مات أربعة أيام وأقامه يسوع.
- ابنة يايرس، ابن أرملة نايين، طابيثا، أوتيخوس: كلهم عادوا للحياة بمعجزات إلهية على يد المسيح، وقد أيد القرآن الكريم هذه المعجزات (لكن ليس بأسماء الذين بُعثوا) حيث جاء في سورة آل عمران أن الله أعطى المسيح عيسى ابن مريم القدرة على إحياء الموتى بإذنه: ﴿ وَأُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّ هِ﴾ – آل عمران: 49 ، هذا النص يؤكد الإيمان الإسلامي بأن عيسى عليه السلام كان نبياً عظيماً مُؤيَّداً بمعجزات خارقة، منها إحياء الموتى، لكنها كانت تجري بإذن الله، أي بتفويض إلهي وليس بقوة ذاتية وهذا ما يُميّز النظرة الإسلامية عن المسيحية في تفسير قدرة المسيح.
- القديسون في أورشليم: قيام جماعي بعد قيامة المسيح.
قصص البعث في الإسلام
النبي عزير
عُزير هو رجلٌ ذكره القرآن في سورة البقرة، مرَّ على قرية خاوية فقال: " أنّى يُحيي الله هذه بعد موتها "، فأماته الله مئة عام ثم بعثه، وأراه كيف أحيا حماره أمام عينيه.
يُعتقد أنه هو "عزرا" في التوراة، كاهن وكاتب يهودي بارز، لكن لا تذكر التوراة حادثة وفاته وبعثه.
يُعتقد أنه هو "عزرا" في التوراة، كاهن وكاتب يهودي بارز، لكن لا تذكر التوراة حادثة وفاته وبعثه.
رجل بني إسرائيل في عهد موسى
سورة البقرة (72–73) تسرد قصة رجل قُتل، ثم بعثه الله ليكشف قاتله، بعد أن ضُرب ببعض من بقرة، كمعجزة توكيدية.
النبي عيسى
القرآن صرّح: ﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَـٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ – آل عمران: 55
كلمة "متوفيك" فسّرها العلماء بمعنى "آخذك بتمامك"، وقد يكون تُوفي روحانياً أو جسدياً. والأحاديث تؤكد عودته في آخر الزمان حيّاً ليكسر الصليب ويقيم العدل، لكنه الآن في حال بين الحياة والموت لا يعلمها إلا الله.
معجزة بعث الطير للنبي إبراهيم
قصة رمزية عميقة عن البعث، وردت في سورة البقرة (260): ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةًۭ مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍۢ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾
ذبح إبراهيم الطيور وفرّق أجزاءها، ثم دعاها، فعادت إليه حية تطير ، برهان حي على قدرة الله في البعث من الموت، وهو المثال الأوضح لمعجزة حية لا لبس فيها.
أهل الكهف
رغم أنه كان نوماً طويلاً استمر قروناً (309 سنة) وليس موتاً ، لكن فكرة البعث موجودة في القرآن الكريم ،إذ وصف الله بعثهم بوضوح : ﴿ وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَٰهُمْ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيْنَهُمْ ﴾ – الكهف: 19 ، تظهر قضيتهم كيف أن الزمن لا يعيق قدرة الله على إعادة الحياة.
حين يصبح البعث لعنة...
ليست كل حالات العودة إلى الحياة مرغوبة في الأساطير فهناك :
- الزومبي: جثة بلا عقل.
- مصاصو الدماء: خلود دموي.
- الغيلان : العودة مع شر داخلي قاتل.
- ملحمة غريتر : طقوس درء الأرواح عند الفايكنغ
كان السكان يقدمون قرابين الماء والطعام للموتى المنسيين في مواسم معينة، ويرددون تعاويذ تطهير تهدف إلى تهدئة الأرواح وإرسالها إلى الراحة الأبدية ، إذ آمن الفايكنغ أن الموتى يمكن أن يعودوا، ليس كأشباح شفافة، بل ككائنات جسدية تهاجم وتنتقم. لذلك، طوّروا طقوساً واحتياطات غير مألوفة، تمزج بين الميتافيزيقا والخرافة ، إقرأ المزيد عن ملحمة غريتر : طقوس درء الأرواح عند الفايكنغ
كان السكان يقدمون قرابين الماء والطعام للموتى المنسيين في مواسم معينة، ويرددون تعاويذ تطهير تهدف إلى تهدئة الأرواح وإرسالها إلى الراحة الأبدية ، إذ آمن الفايكنغ أن الموتى يمكن أن يعودوا، ليس كأشباح شفافة، بل ككائنات جسدية تهاجم وتنتقم. لذلك، طوّروا طقوساً واحتياطات غير مألوفة، تمزج بين الميتافيزيقا والخرافة ، إقرأ المزيد عن ملحمة غريتر : طقوس درء الأرواح عند الفايكنغ
وفي الختام ...تتفاوت القصص التي سمعناها في لغتها وتقاليدها، لكن تجمعها فكرة واحدة أن الموت ليس هو النهاية - سواء كان بعثاً فعلياً أم رمزياً ، تُثبت القصص شيئاً خفياً ينتظرنا بعد الرحيل وعن احتياج عميق للخلود ويبقى البعث بعد الموت سر لم يعد منه إلا من اختاره الله.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .