في عالمنا المليء بالمحفزات البصرية والسمعية، قد تبدو بعض الأشياء واضحة وضوح الشمس، لكنها تمر أمام أعيننا دون أن نلاحظها ، نطلق على هذه الظاهرة اسم "العمى المؤقت" أو "العمى الإدراكي" وهي حالة موثقة في علم الأعصاب تؤدي إلى تجاهل محفزات واضحة بسبب التركيز على عنصر آخر.
لكن، هل هذا كل شيء ؟ ماذا عن الموروثات الثقافية والدينية التي فسّرت هذه الظاهرة على أنها تأثير جنّي، أو سحر، أو كيان خفي يعطل الحواس ؟
في هذا المقال، نستعرض هذه الظاهرة من منظور عقلي ونفسي وثقافي وروحي، ونتتبع الخيط الذي يربط بين المختبرات العلمية ومرويات الأساطير الشعبية.
ما هو العمى المؤقت أو العمى الإدراكي ؟
العمى الإدراكي Inattentional Blindness هو فشل العقل في معالجة أو إدراك محفز حسي واضح نتيجة انشغال الانتباه بشيء آخر. بعبارة أخرى، العين قد ترى ولكن الدماغ "يتجاهل" ما تراه.
أهم الأمثلة العلمية كانت تجربة الغوريلا غير المرئية Invisible Gorilla حيث جرى طلب من المشاركين في التجربة عدّ تمريرات كرة بين فريقين ، والنتيجة كانت أن معظم المشاركين فشلوا في رؤية شخص يرتدي زي غوريلا يمر بينهما !
التفسيرات العصبية والنفسية
هناك تفسير عصبي وهو أن الفص الجداري Parietal Lobe والقشرة الأمامية Prefrontal Cortex في الدماغ مسؤولان عن تصفية المدخلات الحسية ،حيث يقوم الدماغ بواسطتهما استخدام نظام ترشيح إدراكي لتحديد ما يجب أن ننتبه له وما يمكن تجاهله ، العمى المؤقت ليس عيباً في البصر، بل آلية دماغية للبقاء والفعالية ، وقد يٌظهر الأشخاص المصابون بالقلق الشديد أو اضطراب ما بعد الصدمة نوعاً من "العمى الانتقائي" نتيجة لفرط التركيز على تهديدات متخيلة ، وفي جلسات التنويم الإيحائي (أو ما يطلق عليه التنويم المغناطيسي) يمكن إقناع شخص منوَّم بأنه لا يرى شيئاً أو لا يسمع صوتاً واضحاً، مما يعكس قدرة الإيحاء العقلي على تعطيل الحواس مؤقتاً.
العمى الإدراكي في التراث الشعبي والماورائيات
في الثقافات القديمة والمعاصرة، لم يكن هناك تفسير عصبي لهذا النوع من "العمى"، بل رُبط مباشرة بوجود قوى خفية أو كيانات غير مرئية. إليك أبرز التفسيرات الثقافية والروحانية:
الجن والتعامي المقصود
في الموروث العربي والإسلامي، يُعتقد أن الجني قد "يحجب" عين الشخص الذي يستهدفه، ويُطلق على هذه الحالة اسم "التعامي أو الحجاب" ، كثيرون ممن زعموا رؤية الجن يصفون أن "أشخاصاً آخرين لم يكونوا قادرين على رؤيته" رغم وجوده.
السحر والتعتيم الإدراكي
في طقوس السحر الأسود، يُقال إن الساحر قد يستخدم تعويذات "التعمية" بحيث لا يرى الشخص المستهدف أو يرى أشياءً زائفة بدلاً من الحقيقية.
الخداع البصري في الأساطير
في القصص الشعبية من المغرب، العراق، أو الهند، تتكرر روايات عن كيانات تتخفى في هيئة بشرية لكن لا يمكن ملاحظتها إلا لمن " فتح الله عليه " أو كيانات تظهر فقط لشخص دون آخر، ما يرمز لما يشبه " العمى الانتقائي بفعل روحي".
في الموروث المسيحي والغربي
في الأساطير الأوروبية، يتم الحديث عن "التعتيم الجني" (Faerie Glamour)، حيث تغلّف المخلوقات الخرافية نفسها بهالة تجعلها غير مرئية أو مخفية للعقل.
هل يمكن أن يلتقي العلم والماورائيات ؟
العلم يفسر هذه الحالات بأنها ناتجة عن خصائص الدماغ البشرية، خصوصاً في التعامل مع كمّ هائل من المعلومات الحسية ، لكن كثيرين يعتقدون أن العقل ليس مجرد جهاز ترشيح عصبي، بل "بوابة" قد تُفتح أحياناً لاستقبال ما لا يُرى أو يُسمع عادة ، بعض الباحثين في علم النفس عبر الشخصي Transpersonal Psychology يدرسون كيف تتقاطع التجربة الروحية مع الإدراك الحسي والمعرفي.
هل نحن نرى كل ما هو موجود ؟
يعلمنا العمى الإدراكي درساً مذهلاً: أننا قد لا نرى ما يبدو أمامنا بوضوح ... إن لم نكن منتبهين له ، وهذا يفتح الباب لتساؤل فلسفي: هل الواقع موضوعي تماماً ؟ أم أن وعينا يخلق واقعه الخاص، فيراه حين يريد، ويتعامى عنه حين يشاء ؟
إقرأ أيضاً ...
- كيف نعلم بأن عيوناً تراقبنا ؟ هل هي حاسة سادسة ؟
- ما بال الأطفال الرضع يحدقون في اللاشيء ؟
- الأمواج ما تحت السمعية وصلتها بالخوارق
- إكتشاف مناطق "ما وراء الوعي" في الدماغ
- هل يمكن أن تنجح وسائل التنويم الإيحائي مع السارقين ؟
- الخلط المكاني: هل تخدعنا الحواس أم نتنقل بين أبعاد ؟
- طرق " أصحاب السماوي" : إحتيال مبني على هيمنة الإيحاء ومعتقدات الضحية
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .