منصات التواصل الاجتماعي في العالم العربي تعجّ اليوم بشخصيات تتخذ من "الغموض" و"الماورائيات" سلّماً سريعاً نحو الشهرة، غير أن بعضها لا يكتفي بسرد القصص الشعبية أو مشاركة الآراء، بل يتجاوز الخطوط الحمراء نحو تضليل الرأي العام والتشكيك في أبسط حقائق العلم والمنطق ، من بين هذه الشخصيات تبرز حالة محمود صلاح، الذي يقدّم نفسه كـ"باحث في الميتافيزيقا" و"خبير في علوم ما وراء الطبيعة"، بينما الحقيقة تقول إنه مجرد مدعٍ يروّج للخرافات ونظريات المؤامرة باسم "العلم" المزوّر.
في هذا المقال نفتح ملف محمود صلاح بالأدلة والبراهين، ونفكك أبرز أفكاره التي تخدع بها الجماهير، ونبيّن كيف تستغل مثل هذه الشخصيات الفضول البشري والضعف المعرفي لزرع الوهم بدل الوعي، والريبة بدل العقل.
من هو محمود صلاح ؟
شخصية ظهرت على يوتيوب والسوشال ميديا، ثم انتقلت إلى القنوات التلفزيونية المصرية، مقدمة نفسها على أنها تحمل “درجة دكتوراه في الميتافيزيقا”، دون أي إشارة إلى مؤسسة أكاديمية موثوقة تمنح هذا النوع من الشهادات. وهو يدير قناة على يوتيوب وينشط على فيسبوك وتيك توك، حيث ينشر مقاطع يغلب عليها الطابع الدرامي، مصحوبة بموسيقى توتّر، وعناوين مثيرة من نوع :
- الحقيقة التي يخفيها قادة العالم
- هل نحن محاصرون خلف جدار جليدي؟
- الدجال حيّ وموجود بيننا
- لم نصعد إلى القمر وكل ما رأيتموه تمثيلية
وما يقدّمه ليس بحثاً علمياً ولا تحقيقاً صحفياً، بل خليط من الإيحاءات العاطفية، واقتباسات مشوّهة من مصادر علمية، وجرعة كبيرة من نظرية المؤامرة المتطرفة.
الكذبة الكبرى: العلم المزيف
يقدّم محمود صلاح نفسه بوصفه “باحثاً”، ويتحدث كما لو كان ممثلاً للمجتمع العلمي، بينما هو في الحقيقة ضد العلم الحديث بكل أشكاله، بل ويهاجم العلماء صراحة ويتهمهم بالعمالة أو الجهل، في مفارقة سريالية: فهو يستخدم مكبرات الصوت التي أنتجها العلم، وشبكات الإنترنت التي صنعها العلم، ليشكك في حقيقة أن الأرض كروية أو أن البشر صعدوا إلى القمر !
قادة العالم روبوتات أو كائنات غير بشرية
ربما أكثر مزاعمه غرابة وتهريجاً. يروّج لفكرة أن رؤساء الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، ليسوا بشراً، بل كائنات فضائية متنكرة أو روبوتات تتحكم بها “المنظومة الدجالية”. وهي فكرة مسروقة من روايات الخيال العلمي، وتحديداً من كتابات ديفيد آيك، أحد أبرز المؤامريين الغربيين، ممن تم فضحهم مراراً.
الرد العلمي
لا يوجد أي دليل على هذه الفرضية. لا في الفحوصات الطبية، ولا في السجلات البيوغرافية لهؤلاء القادة، ولا في أي تحقيق استقصائي. العلم أثبت أن القادة بشر، بخلاف ما يدّعيه صلاح، الذي لم يقدّم سوى صور مشوشة أو فيديوهات بها “عيون تبرق”، يمكن تفسيرها بانعكاس الضوء أو جودة التصوير السيئة.
الأرض المسطحة، الجدار الجليدي، ناسا الكاذبة
من أكثر الادعاءات التي يروّج لها محمود صلاح تلك المتعلقة بنظرية الأرض المسطحة، إذ يزعم:
أن الأرض ليست كروية، بل مسطحة يحيط بها جدار جليدي.
أن وكالات الفضاء، خاصة ناسا، تكذب على البشر.
أن القارة القطبية الجنوبية تخفي بوابة لعالم آخر أو لحضارات مخفية.
الرد العلمي
تم دحض هذه الادعاءات منذ مئات السنين. العالم يملك صوراً حقيقية لكوكب الأرض من الفضاء. الجغرافيا، الملاحة، الفلك، وحتى الظل أثناء الخسوف كلها تؤكد أن الأرض كروية. أما الجدار الجليدي، فلم يعثر عليه أحد رغم وجود أكثر من 100 محطة علمية نشطة في أنتاركتيكا. وما يزعمه صلاح هو إعادة تدوير لأساطير الإنترنت البائدة.
إنكار الهبوط على القمر
مثل كثير من مروّجي نظرية المؤامرة، يصرّ محمود صلاح على أن صعود الإنسان إلى القمر عام 1969 كان خدعة مصورة في استوديوهات هوليوود.
الرد العلمي
تم جمع 382 كيلوغراماً من صخور القمر، وُزعت على عشرات المعاهد العلمية حول العالم، وتثبت أنها من خارج الأرض. كما توجد عواكس ليزرية وضعت على سطح القمر تُستخدم حتى اليوم لقياس بعده. بل إن الاتحاد السوفيتي، عدو أمريكا وقتها، راقب المهمة وأكّد صحتها. من المستحيل تزييف إنجاز بمشاركة آلاف العلماء دون أن يتسرّب شيء خلال أكثر من خمسين سنة.
كشف الجن، تحريك الأشياء، التواصل مع الأشجار
في حلقاته ومقابلاته، يظهر محمود صلاح وهو يحمل أجهزة يدعي أنها تكشف “وجود الجن في المكان”، أو يزعم أن الإنسان قادر على تحريك الأشياء بقوة عقله، أو “التواصل مع الأشجار”.
الرد العلمي
هذه مجرد ألاعيب إعلامية وشعوذة فكرية. لا يوجد في العلم جهاز واحد معتمد لقياس وجود "الجن"، لأنهم خارج نطاق الفيزياء أصلاً. أما تحريك الأشياء بالعقل، فقد خضع لعشرات التجارب العلمية، ولم يُثبت ولا مرة. وكل من ادعى امتلاك قدرة “التحريك الذهني” إما فشل في الاختبار أو كُشف خداعه. ما يروّج له محمود صلاح هنا هو خرافة تُباع لجمهور يريد تصديق العجيب.
الشيطنة بلا دليل: من ماسك إلى بيل غيتس
يربط محمود صلاح شخصيات مثل بيل غيتس وإيلون ماسك و"النظام العالمي الجديد" بمنظومة “المسيح الدجال”، ويصفهم بأنهم “أذرع للشر الشيطاني العالمي”.
الرد العلمي والمنطقي
هذه مجرد تفسيرات ساذجة للنجاح. حين لا نفهم كيف ينجح شخص في بناء شركة أو إرسال صواريخ للفضاء، نلجأ إلى أساطير الشر. أما الحقيقة فهي عمل وجهد وعلم، وليس تواطؤاً مع “منظمة إبليسية”. ربط العلماء والمخترعين بالشياطين كان يُستخدم في العصور الوسطى، ولا يليق أن يُعاد تداوله اليوم.
ما وراء الخطورة: التسلية تتحول إلى تضليل
قد يقول البعض: "ما الضرر؟ إنه مجرد ترفيه"، لكن الواقع أخطر من ذلك. محمود صلاح:
- يشكك في العلم والتعليم، ويدعو إلى نبذ العلماء.
- ينشر الريبة في مؤسسات الفضاء والطب.
- يغذّي الخوف من التطور التكنولوجي، والذكاء الاصطناعي.
- يغسل العقول بمزيج من الدين المؤوّل والخرافة المبتذلة.
- والأسوأ: أن القنوات الفضائية تستضيفه وتمنحه شرعية إعلامية بدل مواجهته أو محاورته بحزم. وهذا لا يُعتبر حرية رأي، بل خداع منظم للرأي العام.
بين صلاح وسلامة العقل
محمود صلاح ليس أول من يدّعي امتلاك "حقائق سرية"، لكنه نموذج لما يمكن أن تفعله الشبكات الاجتماعية حين ترفع الأصوات الخاطئة وتخفت عند صوت العلم. في زمن المعلومات، الخرافة لا تسود إلا حين يغيب النقد والمنهجية.
إذا لم نفضح هذه الشخصيات، وإذا استمر الإعلام في تلميعهم، فإن أجيالًا من الشباب ستنمو وهي تظن أن الأرض مسطحة، وأن القمر كذبة، وأن الروبوتات مخلوقات شيطانية.
إن الدفاع عن الحقيقة اليوم أقرب إلى المقاومة الثقافية، ولا بد أن نبدأها من هنا.
إقرأ أيضاً ...
- لماذا يؤمن الناس بنظريات المؤامرة ؟
- الماورائيات في العالم العربي: بين أسر التفسير الديني وغياب المنهج العقلي
- في البحث عن الحقيقة
- هل الجن "سلوك بشري" ؟ قراءة في رؤية سامر إسلامبولي والرد عليها
- أبرز نظريات المؤامرة حول الكائنات الفضائية
- خداع البنتاغون لا يُلغي الحقيقة: الأجسام الطائرة المجهولة لا تزال لغزاً قائماً
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .