5 يوليو 2025

البومة : بين الأسطورة وطقوس السحر وتفسير الأحلام

إعداد :  كمال غزال

في ظلال الليل حيث يسود السكون، يظهر طائر لا يُسمع له جناح، بوجه مسطح وعينين كالجمر تحدّقان بثبات ، إنها البومة، الطائر الذي حيّر الثقافات، فتأرجحت رمزيته بين الحكمة المقدسة والنذير المشؤوم. في الغرب تُبجّل كرمز للمعرفة، بينما في العالم العربي تُخشى ككائن يجلب الخراب : فما سر هذه الطائر ؟ ولماذا التصق به هذا الكم من الغموض والأساطير ؟

 في هذا المقال، نخوض رحلة ماورائية عبر المعتقدات القديمة، وطقوس السحر، والرموز الدفينة التي أحاطت بالبوم منذ فجر الإنسانية.

البومة في الثقافة الغربية: رمز الحكمة والمعرفة

في حضارات الإغريق والرومان، ارتبطت البومة بالحكمة والبصيرة. وقد اختارتها الإلهة "أثينا" لتكون طائرها المقدّس، لما فيه من ثبات النظرة وهدوء الطيران ورؤية ليلية خارقة. كانت تظهر على العملات المعدنية في أثينا، وتحمل دلالات على الحماية والحكمة ، لكن هذا الرمز لم يخلُ من الجانب المظلم. فقد اعتبرها الرومان نذير موت؛ إذا سُمع صوتها فوق مبنى فإن ذلك يدل على وفاة قريبة، وقد سُجّل أن ظهورها سبق موت الأباطرة مثل أوغسطس ويوليوس قيصر.

وفي العصور الوسطى، ظلّت البومة تُصوَّر كرفيقة للسحرة والمشعوذين. لكنها مع عصر التنوير، استعادت مكانتها كرمز علمي، فأصبحت شعاراً للفلاسفة والأكاديميين، لا سيما في الغرب الحديث حيث تُستخدم في شعارات الجامعات وكتب الأطفال.

البومة في الثقافة العربية: نذير الخراب ورفيق الهامّة

في الموروث العربي، اتخذت البومة منحى مختلفاً فقد ارتبطت في الذهن الشعبي بـ"الشؤم"، وارتبط نعيقها بالموت والخراب. وكثيراً ما قيل : "نعيق البومة خراب" ، وتُسمى أحياناً بـ"الهامّة"، وهي تسمية جاهلية تشير إلى روح الميت التي تحلّ في هيئة بومة لتطلب الثأر/ وقد جاء في الحديث الشريف نفي لهذه الخرافة: « لا هامَةَ ولا صَفَرَ ولا نَوء » — رواه البخاري

مع ذلك، بقيت هذه الصورة عالقة في المخيلة الشعبية، ففي بعض المناطق الريفية بمصر وسوريا والعراق، ما زال البعض ينفر من البوم ويطرده من أسطح المنازل إذا حطّ عليها، معتقدين أنه يسبق كارثة.

لكن هذا التصور بدأ بالتغير مؤخراً؛ ففي أسواق القاهرة مثلاً، بدأ المزارعون يقتنون البوم لحراسة الحقول من الفئران. بل إن أحد الباعة ذكر أن البوم يعود طوعاً إلى قفصه عند إطلاقه، مما قلب الصورة النمطية لدى بعض الزبائن.


البومة في أساطير حضارات قارة أمريكا: رسول عالم الموتى

في حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية، مثل حضارة المايا، كانت البومة تمثل رسولة عالم الأموات. ففي كتاب "بوبول فوه"، تظهر البومة ككائن يأتي من "زيلبالباه"، أي عالم الظلال، وتنقل الرسائل من عالم الأحياء إلى عالم الموتى ، في حضارة الأزتك كان إله الموت "ميكتلانتيكوتلي" محاطاً بطيور البوم، وكانوا يعتقدون أن صوتهما يدل على وجود الأرواح في المكان ، وفي ثقافات سكان أمريكا الأصليين مثل قبائل الهوبى، كانت البومة حامية للبوابة بين العالمين، تُستخدم في الطقوس المرتبطة بالأحلام والموت.


البومة في السحر والشعوذة

في طقوس السحر القديمة، اعتُبرت البومة كائناً روحانياً عالي الارتباط بالليل، الغيب، والأرواح الخفية، استخدمها السحرة كرمز للتخاطر والبصيرة الباطنية، خصوصاً في أوروبا وإفريقيا ، وفي بعض طقوس الفودو الأفريقي يُعتقد أن البوم هم تجسد لأرواح الحكماء الذين ماتوا، ويُستدعون لمساعدة الكاهن ، في الفولكلور الإنجليزي القديم كانت البومة تُشنق أمام المنزل لدرء الحسد والعين ، وفي أمريكا اللاتينية ظهرت طقوس سحرية توظف صوت البومة لرؤية المستقبل أو التواصل مع الأرواح.

في طقوس السحر السفلي، تُستخدم أجزاء من البوم، بما في ذلك الدم، في ممارسات تهدف إلى إيذاء الآخرين. يُعتقد أن دم البوم يُستخدم في كتابة الطلاسم والتعاويذ، حيث يُعتبر من العناصر القوية في هذه الطقوس. كما تُستخدم أجزاء أخرى من البوم، مثل الريش والعظام والجمجمة، في صنع التمائم والتعاويذ التي يُعتقد أنها تُسبب الأذى أو تُحقق رغبات معينة.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسات تُعتبر غير قانونية في العديد من الدول، وتُعد انتهاكاً لحقوق الحيوانات. كما أن استخدام دم البوم وأجزائه في السحر السفلي يُعد من الممارسات المحرمة في العديد من الثقافات والأديان ، من المهم التوعية بمخاطر هذه الممارسات، سواء من الناحية الأخلاقية أو القانونية، والعمل على حماية الحيوانات من الاستغلال في مثل هذه الطقوس.

رمزية البومة في تفسير الأحلام: تحذير أم إلهام ؟

البومة في الأحلام تحمل دلالات مزدوجة: إذا ظهرت بهيئة هادئة أو تطير بصمت، فهي رمز للبصيرة الداخلية والقدرة على كشف الحقيقة أما إذا صرخت أو نَعَقت، فقد تُشير إلى خطر خفي، شخص يراقبك، أو شعور داخلي بالخوف.

في تفسير ابن سيرين، البومة تدل على "رجل سارق شديد البأس لا جند له". ولكن في تفسير حديث يراها علماء النفس كمرآة للحدس العميق أو الخوف من المجهول.


قصة واقعية : من نذير رعب إلى بوابة نحو الغيب

من المغرب العربي، شاركتنا آنسة في الثلاثينات من عمرها واحدة من أغرب التجارب التي وصلت إلى موقع ما وراء الطبيعة،  بدأت القصة بحلم مفزع في عمر الثامنة عشرة: غابة مظلمة، واعتداء عنيف من ثلاثة رجال لا تعرفهم، أحدهم كان يرتدي الأبيض وتظهر على وجهه علامة ضربة سكين دامية. وبينما كانت تهرب، ظهرت أمامها بومة عملاقة تحدّق في عينيها مباشرة، نظرة لم تكن بشرية، بل كأنها تخترق أعماق الروح.

بعد أيام قليلة، تحقّق الحلم بحذافيره في الواقع — الاعتداء، الملابس، الجرح، حتى عدد المعتدين. لكن ما ترك الأثر الأبقى لم يكن العنف، بل تلك البومة، التي تحوّلت في ذاكرتها من مجرد طائر إلى كيان مرعب، يسبق الكارثة ، ازداد النفور بداخلها حتى أنها لم تَعد تحتمل حتى رؤية صورة بومة على ورقة، رغم كونها مهندسة معمارية.

لكن بعد مرور ستة عشر عاماً، جاءت اللحظة الفارقة. حلمٌ جديد، وبومة سوداء تهاجمها، تقول لها بوضوح: " نعم، تستطيعين". وللمرة الأولى، استيقظت دون خوف. ومن تلك الليلة، تغيّرت علاقتها بالبوم جذرياً.

تقول إنها بدأت ترى البومة في منامها وفي الواقع كـكائنٍ رسولي بين العالمين، تنقل إشارات لا يفهمها إلا من تعلّم قراءة الرموز. شيئاً فشيئاً، بدأت تلاحظ أنها قادرة على توقّع الخطر والموت. ليس عبر رؤى صريحة، بل إحساس داخلي، إشارات رمزية قبل أيام من وفاة أحد الأقارب. وصفت ذلك بأنه "حدس غريب، يشبه صفارة إنذار داخلية، يسبق الفاجعة ويهيّئني لها نفسياً".

أصبحت هذه الرؤية الماورائية جزءاً من حياتها. لم تعد تخاف البومة، بل عشقتها. وصارت تعتبرها كائناً روحانياً مرافقاً، يُنذر ويحذّر، لكنه لا يؤذي. رمزٌ غامض، لكنه صادق، لا يظهر عبثاً.


الخصائص الفيزيولوجية التي غذت الغموض

يعود جانب كبير من رمزية البومة إلى خصائصها الجسدية والسلوكية: فوجهها المستدير يشبه وجه الإنسان، وعيناها لا تتحركان بل يبقى نظرها ثابتاً ، طيرانها صامت تماماً بسبب تركيب خاص في ريشها يمتص الاهتزازات، مما يجعلها تظهر وتختفي بلا أثر ، تعيش في الليل وتُصدر أصواتاً غريبة تشبه الصراخ أو العويل، ما زاد من الاعتقاد بصلتها بعالم الأرواح ، لا تبني أعشاشها غالباً بل تختار أماكن مهجورة كالأطلال والمقابر، مما زاد الغموض حولها.

طائر من عالم بين العوالم

البومة ليست مجرد طائر ليلي غريب؛ إنها رمز مزدوج يحمل بين جناحيه معاني الحكمة والخوف، الغموض والمعرفة، النور والظلام فلا غرابة أن تكون ضيفاً دائماً في الأساطير والكوابيس وأيضاً حاضرة بين دفاتر الحكماء ، لقد بقيت البومة، رغم كل الأساطير، تذكيراً بأن ليس كل ما يخيفنا يحمل الشر، ولا كل ما نجهله يجب أن نرفضه… أحياناً، تكمن الحكمة في عيون الطائر لا يُسمَع له جناح.


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ