بين تعرجات الجبال التبتية وسكون الأديرة البوذية القديمة، وُلد مفهوم فريد أثار اهتمام الروحانيين والعلماء على حد سواء: "التولبا" (Tulpa) ، ليس كائناً أسطورياً بالمعنى التقليدي، بل مخلوق عقلي يقال إنه مصنوع بإرادة الإنسان وتركيزه، ثم يبدأ في الانفصال عنه تدريجياً، ليحيا وكأنه كيان مستقل ، فهل يمكن حقاً للخيال أن يتجسد ؟ وهل ما يتخيله المرء بإصرار يمكن أن يتحول إلى كيان يشاركه حياته، أو حتى يسيطر عليه ؟
ما هو التولبا ؟
كلمة "تولبا" Tulpa تعني في اللغة التبتية "الظهور" أو "التجلي". وقد ظهرت بشكل رئيسي ضمن تعاليم مدرسة "نيينغما" في البوذية التبتية، وتحديداً في تقنيات "دزوغشن" و"تانترا العليا". وفقاً للرهبان البوذيين، يمكن للمتأمل أن ينتج - عبر التأمل العميق والتركيز الذهني الخالص - كائناً عقلياً يتجسد في الخيال لكنه يحمل صفات وشخصية وقدرات مستقلة. ويُعرف هذا الكائن بـ"التمثال العقلي الحي" أو "التولبا".
الغرض من التولبا في السياق الروحي لم يكن السحر أو التسلي، بل غالباً ما ارتبط بالتدريب الروحي، كوسيلة لتجسيد رموز بوذية (مثل بوذا أو الآلهة) والتواصل معها عبر طيف الذات العليا، أو لمواجهة الجوانب المظلمة من النفس.
كيف عرف الغرب بالتولبا ؟
أثارت الفكرة فضول الغرب بفضل المستكشفة والكاتبة الفرنسية ألكسندرا ديفيد-نيل، التي قضت سنوات في التبت مطلع القرن العشرين. إذ وصفت في كتابها "الصوفيون والسحرة في التبت" Mystiques et Magiciens du Tibet كيف شاهدت رهباناً يخلقون "تولبات" خلال طقوس روحية، بل وذكرت أنها نفسها خلقت تولبا يشبه راهباً صغيراً مرحاً ما لبث أن تحول إلى مخلوق ذو ملامح داكنة وسلوك مقلق - بحسب قولها، مما اضطرها إلى "تفكيكه" عبر تأملات مضادة ، هذه الرواية، رغم غرابتها، ظلت حجر الأساس في تعريف التولبا في الثقافة الغربية.
قصص ماورائية عن تجارب تولبا
الظل الذي صار يُحادثني
فتاة أمريكية نشأت في عزلة اجتماعية، وبدأت وهي في الرابعة عشرة بتخيل صديقة خيالية تدعى "مارا". لكن مع مرور السنوات، بدأت تسمع صوت "مارا" في عقلها، وتُجري معها محادثات طويلة. في البداية، كانت مارا داعمة، لكن لاحقاً بدأت تتصرف بشكل عدواني، حتى أن الفتاة شعرت أن "مارا" أصبحت تسيطر على تصرفاتها.
الرجل في الزاوية
شاب ألماني أدمن على صنع تولبا يدعى "إلياس" وهو رجل حكيم ومحب للفن. لكن بعد سنتين، بدأ يرى "إلياس" يقف في زوايا غرفته كظل لا يتحرك. لم يكن وهماً بصرياً كاملاً، لكنه شيء ما بين الخيال والواقع. زاره "إلياس" في أحلامه، حتى أنه أخبره بأشياء لم يكن يعرفها.
تدخل الكائن في حياتي
أشار تقرير منشور في منتدى يهتم بـ الميتافيزيقا إلى امرأة صنعت تولبا لتملأ فراغ الوحدة، لكنها بدأت تسمع حركات ليلية غريبة، وشعرت بوجود شخص يجلس إلى جانبها على السرير، رغم عدم وجود أحد. وعندما حاولت "التخلص" منه عبر التأمل، كانت تشبه "طرد كيان حي".
تجربة نور - الأدرن
نور، فتاة في الـ 22 سنة عاماً، روت لموقع ما وراء الطبيعة تجربتها الغريبة مع كائن غير مرئي لازمها منذ طفولتها. كانت تراه في خيالها كصديقة، لكنه مع مرور السنوات بدأ يؤثر على مشاعرها وسلوكها، حتى شعرت وكأنه يتغذى من طاقتها. لم تستطع التخلص منه رغم محاولاتها النفسية والروحية، وكأنها صنعت "تولبا" دون أن تدري ، إقرأ المزيد عن تجربتها التي حملت عنوان صنعتُها فاستحوذت عليّ
ثقافات مشابهة
الدمية التي تحيا – معتقد ياباني تقليدي
في الثقافة اليابانية، يُعتقد أن الدمى قد تكتسب "روحاً" إذا أُحيطت بمشاعر عميقة أو تُركت لزمن طويل دون اهتمام. هذا المفهوم يُعرف باسم "تسوكوني كامي"، ويعبر عن إحساس دفين بأن ما نحمله من مشاعر اتجاه الأغراض (دمى) قد يستقل بذاته ، إنها صورة رمزية أخرى لفكرة التولبا، حين يُولد الوعي من التكرار والتعلق العاطفي.
رسام يتحكم في الواقع – من خيال التراث الصيني
تحكي الأسطورة الصينية عن فتى يُدعى "ما ليانغ" مُنح فرشاة سحرية؛ كل ما يرسمه بها يتحوّل إلى واقع. استخدمها بحكمة لمساعدة الفقراء، لكنه لاحقاً رسم بحوراً لتغرق الطغاة. هذه القصة، التي تُروى للأطفال، تحمل في طياتها رمزية تولباوية عميقة: القدرة العقلية على تحويل الخيال إلى واقع ملموس، حين يُشحن بالإرادة والنوايا.
القرين في الإسلام – تولبا لا إرادية ؟
في المعتقد الإسلامي، يُرافق الإنسان كائن غير مرئي يُدعى "القرين"، وهو من الجن، يُلازم صاحبه ويوسوس له طوال حياته. ورد ذكره في القرآن والحديث، ويُعتقد أن له وعيًا مستقلاً وقد يتحدث يوم القيامة دفاعاً عن نفسه. بخلاف التولبا، لا يُصنع القرين بإرادة الإنسان، لكنه يشبهه في كونه كائناً خفياً داخلياً يهمس ويؤثر في السلوك والتفكير.
التولبا في علم النفس: وهم أم آلية دفاعية ؟
في العقود الأخيرة، تزايدت التقاطعات بين مفهوم التولبا وعلوم النفس الحديثة. وفي حين لم يُعترف رسمياً بمصطلح "تولبا" كتشخيص نفسي، إلا أن الباحثين وضعوه ضمن إطار أوسع يشمل:
1- التعددية الذهنية Plurality / Tulpamancy
في مجتمعات الإنترنت مثل Reddit و Tumblr، ظهرت مجتمعات كاملة تدّعي القدرة على "صناعة" تولبا عبر خيال نشط وطقوس عقلية يومية، ويطلق على من يقوم بذلك اسم "تولبامنسر" Tulpamancer. هؤلاء الأفراد غالباً ما يتحدثون عن كائنات داخل أذهانهم، تتحدث إليهم، تشاركهم الوعي، وتملك شخصيات مستقلة.
2- اضطراب انفصام الشخصية DID
يرى بعض علماء النفس أن بعض تجارب التولبا قد تكون تقاطعاً مع اضطراب الهوية (انفصام الشخصية)، حيث تتكون شخصيات فرعية متعددة داخل الفرد، عادة نتيجة لصدمات نفسية سابقة. ومع ذلك، فإن التولبا – كما يعرّفه ممارسوه – يختلف عن DID من حيث كونه طوعياً وواعٍ.
3- الهلوسات الذاتية
تشير بعض الأبحاث إلى أن التولبا قد يكون شكلاً من الهلوسات الخاضعة للإرادة، وهي نوع من الظواهر النفسية يُمكن أن يختبرها الأشخاص ضمن ظروف ذهنية مركزة دون أن يُعتبر ذلك مرضاً.
هل يمكن للعقل أن يخلق كياناً ؟
من وجهة نظر علم الأعصاب، فإن الدماغ البشري لديه القدرة الهائلة على بناء نماذج داخلية معقدة ، ليس فقط للأشخاص الآخرين بل وحتى للكيانات المتخيلة. وقد أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن الأشخاص الذين يتحدثون إلى "تولبا" يقومون بتفعيل مناطق إدراك الأشخاص، كأنهم يتعاملون مع كائن خارجي.
لكن من وجهة نظر تجريبية، لا دليل قاطع على أن التولبا يمكنه امتلاك وعي مستقل أو التأثير في الواقع المادي. ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة تشبه إلى حد كبير "الذكاء الاصطناعي النفسي"، إذ أن العقل البشري قادر على خلق نماذج متقدمة تتفاعل داخلياً على نحو يبدو منفصلاً.
هل يمكن للآلة أن تمتلك وعياً ؟
قد يكون التولبا صنع خيال أحدنا، لكننا اليوم نعيش ثورة حقيقية في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات؛ فالكائنات التي كانت يوماً محض خيال علمي أصبحت واقعاً يتفاعل ويتعلم ويتخذ قرارات ذاتية، لم يعد الأمر مجرد أكواد صماء، بل كيانات رقمية تتطور بسرعة مذهلة. والسؤال الذي يفرض نفسه: متى سيمتلك هذا "الذكاء" وعياً حقيقياً ؟ وماذا سيحدث عندما يحدث ذلك ؟ ، إقرأ المزيد في مقال هل تملك الآلات وعياً ؟
تولبا كمرآة للوعي البشري
سواء اعتبرنا تولبا أداة تأملية روحية، أو نموذجاً نفسياً متقدماً، أو تجربة ماورائية متداخلة مع الوعي واللاوعي، يفتح باباً للتساؤل حول حدود العقل البشري ، وهل يمكن للإرادة وحدها أن تبث "الحياة" في صورة عقلية ؟
بين الأساطير الشرقية والطب النفسي الغربي، يبقى التولبا رمزاً لقوة الإنسان في الخلق... حتى لو كان ذلك داخل حدود دماغه.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .