في قلب روسيا، تلك البلاد الشاسعة الممتدة بين الغابات الجليدية في الشمال والمراعي القاحلة في الجنوب، لا تكمن فقط أسرار التاريخ الإمبراطوري والصراعات الكبرى، بل أيضاً عوالم خفية وكيانات أسطورية وطقوس غامضة، ما تزال حية في ذاكرة الشعب الروسي فرغم دخول المسيحية منذ قرون، احتفظ الروس بموروث غني من الأساطير والمعتقدات الماورائية التي تسكن الحكايات الشعبية وتطل برأسها أحياناً في تفاصيل الحياة اليومية.
نصحبكم في جولة فريدة إلى أعماق الغيبيات الروسية، حيث نكشف عن أشهر الكيانات الأسطورية، وأغرب الممارسات السحرية، وأكثر الأماكن رعباً، والطقوس المعاصرة التي تعكس علاقة هذا الشعب المستمرة مع العالم الآخر.
الكيانات الأسطورية في الفولكلور الروسي
الدوموفوي (Domovoy): روح البيت الحامي
روح منزلية محبوبة في الفولكلور الروسي، يتجسد في شكل عجوز صغير يعيش خلف الموقد أو في الإسطبل. إذا عومل باحترام، جلب الحظ وحمى المنزل. وإذا أُهين، جلب النحس والكوابيس. ما يزال كثيرون يضعون له الخبز أو اللبن كقرابين في الأرياف.
البانِيك (Bannik): سيد الحمام الروسي
يُعتقد أنه يسكن حمامات البخار، وقد يُعاقب من يستهين بطقوس الحمام، بإلقاء الحجارة الساخنة أو الماء المغلي عليه. هذه الروح ترمز إلى الاحترام الموروث لطقوس التطهر الجسدي والروحي معًا.
الليشيي (Leshy): حارس الغابة الغامض
روح الغابة الأسطورية، يظهر أحيانًا على هيئة رجل ضخم أخضر الجلد أو عجوز مغطى بالطحالب. يضلّل المسافرين بأصوات خادعة، وقد يكون خطرًا أو مسالمًا حسب مزاجه. حتى اليوم، لا يدخل بعض القرويين الغابة دون أن يتمتموا طلب الإذن منه.
الروسالكا (Rusalka): حوريات الموتى
تُعرف الروسالكا بأنها حوريات مائية تسكن الأنهار والبحيرات، وتتجسد في هيئة نساء فاتنات بجمال مائي آسر، يُقال إنهن أرواح نساء انتحرن غرقًا أو فتيات غير معمّدات. تغوي الروسالكا الشبان بجاذبيتها أو صوتها الغنائي، ثم تغرقهم في المياه. لا يُنظر إليها دائمًا كشيطان، بل كروح معذبة تبحث عن السلام ، إقرأ المزيد عن أسطورة روسالكا.
الكيكيمورا (Kikimora): تجسيد الفوضى المنزلية
روح أنثوية مشوهة تسكن زوايا البيوت القذرة أو غير المرتبة. تخرج ليلًا، وتصدر أصواتًا مزعجة، وتجلس أحيانًا على صدر النائم لتخنقه، في تفسير شعبي لحالة شلل النوم.
أماكن مسكونة وظواهر خارقة
روسيا لا تفتقر لأماكن اكتسبت شهرة مرعبة، سواء بفعل الأساطير أو الحوادث الغريبة. إليكم أبرزها:
كرملين نيجني نوفغورود
تحكي الأسطورة أن برجًا من أبراج القلعة رفض أن يُبنى حتى قدّم البناؤون امرأة حامل قرباناً حياً. يقال إن شبحها يظهر ليلاً، حاملةً طفلها.
شقة راسبوتين في سانت بطرسبرغ
المكان الذي عاش فيه الراهب راسبوتين قبل مقتله، حيث أفاد سكان لاحقون بسماع خطوات وهمسات مرعبة ليلاً، وكأن روحه لا تزال حبيسة الجدران. إقرأ المزيد عن راسبوتين : الراهب الأسود .
وادي الموت في ياقوتيا
منطقة نائية تزخر بأساطير عن "قدور معدنية" ضخمة مدفونة تحت الأرض، تقتل كل من يبيت بجانبها. يشير البعض إلى آثار الإشعاع أو الغازات السامة، بينما يرى آخرون أنها من صنع حضارات غابرة أو زوار من الفضاء.
مقبرة الشيطان في سيبيريا
بقعة سوداء معزولة، تذبل فيها النباتات، وتُعطل الأجهزة الإلكترونية، ويمرض زوارها بأعراض غريبة. لا أحد يجرؤ على البقاء فيها طويلًا.
بحيرة شايطان (الشيطان)
بحيرة ماؤها أسود غامض، تطلق من وقت لآخر نافورات مائية ضخمة من أعماقها، وتطفو على سطحها جزر متحركة، في مشهد يوحي بقوة شيطانية كامنة.
بيت إيغناتوف (موسكو)
يقع هذا المنزل التاريخي في موسكو ويُستخدم اليوم كمقر للسفارة الفرنسية. يشتهر في الفولكلور المحلي بظهور شبح فتاة شابة قيل إنها حُبست حيّة بين الجدران عقابًا لها، وتظهر في الليل بصراخ مكتوم أو همسات حزينة. تحيط بالمكان هالة من الغموض رغم نفي المسؤولين أي نشاط خارق.
قصر سانت مايكل – سانت بطرسبرغ
قصر إمبراطوري شيد لألكسندر الأول وشهد مقتل والده القيصر بول الأول داخله في عام 1801. يُزعم أن شبح القيصر يتجول ليلاً حاملاً شمعة، يظهر في الردهات والدرج الرخامي. اليوم يستخدم كمتحف فني، لكن الكثيرين ما زالوا يتحاشون زيارته بعد الغروب.
قناة غريبويدوف – سانت بطرسبرغ
تحيط بهذه القناة قصص ظهور شبح صوفيا بيروفسكايا، إحدى الثوريات اللواتي أُعدمن شنقاً في القرن التاسع عشر. تقول الروايات إن روحها تطفو فوق الماء في ذكرى موتها، بوجه أزرق مشوه وحبل وهمي حول عنقها. مشهدها يثير الرهبة لدى المارة.
ممر دياتلوف – جبال الأورال
واحد من أكثر الألغاز غرابة في القرن العشرين، حيث وُجد تسعة متزلجين موتى عام 1959 بظروف مروّعة وغير مفسّرة. تضمنت الإصابات كسوراً داخلية بلا جروح ظاهرية، وآثار إشعاع، وألسنة مقطوعة. بقيت الحادثة مثار جدل حتى اليوم، بين نظريات علمية وتفسيرات ماورائية ، إقرأ عن أبرز بوابات الغموض الأرضية: اختفاءات وأضواء غريبة وشذوذ مغناطيسي وفوهة بوتامسكي.
السحر والشعوذة في روسيا المعاصرة
رغم السيطرة الرسمية للمسيحية الأرثوذكسية، لا تزال روسيا واحدة من أكثر الدول التي تحتضن المعتقدات السحرية. تشير إحصاءات رسمية إلى وجود أكثر من 800 ألف شخص يعملون كمشعوذين ومعالجين روحانيين. ومن أبرز المظاهر:
السحر السلافي المعاصر: تعود ممارسات الوثنية القديمة، كعبادة الشمس والنار والأرواح، في مجتمعات تُعرف بحركة "Rodnovery". تُقام احتفالات موسمية وطهو قرابين رمزية للطبيعة.
السحر السياسي: في عام 2019، أدت مجموعة من الساحرات بقيادة "ألينا بولين" طقساً لدعم الرئيس بوتين، مستخدمات تعاويذ لإزالة "الطاقات السلبية" عنه. وقد لقي هذا الطقس تغطية إعلامية كبيرة، وأثار الجدل حول الحدود بين الإيمان والدعاية.
الشامانية السيبيرية: في جمهوريات كـ ياكوتيا وبورياتيا، لا يزال الشامان (المعالج الروحي) يلعب دوراً محورياً. ومن أشهر الأمثلة الشامان ألكسندر غابيشيف الذي أعلن أنه ذاهب إلى موسكو لطرد "الروح الشريرة" من الكرملين، قبل أن يُعتقل.
الطقوس والمعتقدات في روسيا المعاصرة
- عيد إيفان كوبالا (7 يوليو): طقس وثني يحتفل بالماء والنار والخصوبة. تقفز الفتيات فوق النار وترمين الأكاليل في النهر بحثاً عن حظ الزواج.
- طقوس قراءة الطالع: ما تزال تقاليد "السفياتكي" حية، حيث تتنبأ الفتيات بمصيرهن عشية عيد الميلاد من خلال المرايا أو الشموع أو فناجين القهوة.
- برامج تلفزيونية عن الخوارق: مثل "Bitva Ekstrasensov" (معركة الخارقين)، حيث يتنافس الوسطاء الروحانيون في كشف الغيب أمام ملايين المشاهدين.
- السياحة الماورائية: تنتشر جولات الأشباح الليلية في موسكو وسانت بطرسبرغ، حيث يصطحب مرشدون الزوار إلى بيوت يُقال إنها مسكونة، ويروون لهم القصص وسط أجواء درامية.
وفي الختام ، روسيا ليست فقط بلداً من الثلوج والقيصر والماركسيين، بل هي أيضاً عالم متداخل من الأرواح الحارسة، وحوريات الغرقى، وسحرة يلقون تعاويذهم في وضح النهار. في هذا البلد، تمتزج الأسطورة بالواقع، ويظل الباب مفتوحًا على مصراعيه لعوالم لا يمكن تفسيرها بالعقل وحده. وربما هذا هو سر سحر روسيا الحقيقي... ذلك الذي لا تراه العين، بل تشعر به الروح.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .