![]() |
إعداد : كمال غزال |
بين قمم الجبال الشاهقة، والقرى المتناثرة على التلال، والغابات الضبابية في جنوب شرق أوروبا، تقع دول البلقان، منطقة تشتهر بتعدد أعراقها ودياناتها وصراعاتها... لكنها أيضاً تخفي بين طيّاتها أحد أغنى الموروثات الماورائية والأسطورية في العالم ، هذه ليست مجرد أساطير محلية أو خرافات عجائز بل عالم آخر يحيى بين الشقوق: كائنات خفية، أرواح حارسة، طقوس سحرية، ومواقع تحمل طاقة غريبة، إليك رحلة كاملة داخل هذا الظلام النابض بالأساطير:
1- زانا : الجنيات الحارسات
في أعالي جبال الألب الألبانية، وبين مجاري الأنهار المخفية، تُروى أسطورة "زانا" كائنات أنثوية نصفهن من نور ونصفهن من نار، لسن مجرد جنيات تقليديات فهن يحرسن الشجعان ويمنحنهم القوة والتبصّر، يُقال إن "الزانا" تراقب المواليد منذ ولادتهم، وإن اختارت محارباً، منحته القوة وسرعة البديهة و"الجرأة الصامتة" ، ويتردد أن العديد من الأبطال الشعبيين في ملحمة "كانون" الألبانية كان وراءهم زانا همست في آذانهم حين ساد الصمت في ساحة المعركة .
لكن الجنيات لسن مسالمات دائماً ، فمن يُغضب الزانا يُصاب بالعمى أو الجنون أو يُختطف ليعيش في بُعدٍ زمني غريب، وقد يصاب بلوثة عقلية نتيجة "الاحتراق الداخلي" ، والأكثر غرابة: أن من يُقابل الزانا قد يشعر أن الزمن توقف، أن الكون انكمش حوله، وأنه عاد منها بحكمة أو لعنة لا تزول، يُقال إن "زانا" تختار من تُظهر له نفسها، وتمنحه "النظرة الثانية"، التي يرى بها الكائنات الأخرى التي لا يراها الناس.
2- طقوس الرصاص المذاب
طقس "باجانيه سترافي" Bacanje Strave لا يزال حياً في القرى الجبلية، حيث تُذوّب النساء المسنات قطعة من الرصاص فوق نار صغيرة، ثم يُسكب المعدن المصهور في إناء ماء بارد فوق رأس الشخص المصاب ، تتشكّل أشكال غريبة داخل الماء ثم يُقرأ منها سبب "الخوف الساكن" سواء كان حسداً، أو كابوساً، أو مسّاً.
النساء يهمسن بأدعية غامضة، وغالباً ما تُخلط الصلوات الأرثوذكسية بالآيات القرآنية في مزيج يعكس التعايش العجيب بين الديانات في البلقان ، يُستخدم هذا الطقس بعد حالات صدمة، أو بعد رؤية شيء لا تفسير له. ويُقال إن الطفل الذي يصرخ بلا سبب قد يكون "أخذ خوفاً من الجن"، فيُعالج بالرصاص.
تنتشر هذه الطقوس في البوسنة وكوسوفو
3- الدراكافاك : روح الطفل الصارخ
هي روح شريرة لطفل مات دون تعميد، يعود في صورة مخلوق يصرخ في الليل وسط الغابات، يُسمى "دراكافاك" Drekavac، ويظهر كظل هائم أو مخلوق قزم، ينذر بالموت أو المصيبة.
يُقال إن "الدراكافاك" يتشوه بمرور الزمن ويظهر أحياناً كقرد صغير أو ظل زاحف، رؤيته نذير سوء، وتُسمع صرخاته قبل حوادث الموت المفاجئة. في بعض القرى، يُمنع دفن الأطفال ليلاً خوفاً من تحوّلهم إلى دراكافاك ، الناس يتفادون السير في أماكن معينة ليلًا حتى اليوم، خاصة بعد سماع صرخات لا تُفسّر.
تنتشر هذه الأسطورة في صربيا ، البوسنة ، الجبل الأسود.
تنتشر هذه الأسطورة في صربيا ، البوسنة ، الجبل الأسود.
4- السحر الشعبي والتعاويذ
لا تزال قرى مثل "بيييلو بوليي" في الجبل الأسود أو "ستروغا" في مقدونيا، تؤمن بوجود نساء مسنات يمارسن السحر الشعبي ويُزعم أنهن يحملن "العين الثالثة" ، ساحرات بالفطرة لفك اللعنات، يُقال إنهن يستعملن رموزاً مثل الخيط الأحمر، الثوم، قشرة البيض، رماد القطط، الحبر الممزوج بالدم، وحتى أجزاء من أظافر الضحية لجذب اللعنة أو صدّها ، كما يُمارس طقس "الحرق الرمزي" لعنصر يمثل الخصم، كالاسم أو صورة، ليُلقى في النار مع تعويذات ، الساحرات يُطلب منهن أيضاً شفاء الماشية، وربط الحبيب، أو كسر زواج غير مرغوب فيه ، وحتى صناعة "الأثر" أي قطعة تُدفن تحت المنزل لإصابة ساكنيه بالمرض أو الحظ السيء ، ويؤمن البعض أن السحر لا ينجح إن لم يُنفّذ مع اكتمال القمر أو عند يومي الثلاثاء والجمعة، لما لهما من "انكسار في الحجب".
- في ألبانيا، يُلجأ إلى "الحجّاج" لكتابة تعاويذ تُدفن أو تُحمل للحماية أو الربط.
- في بلغاريا، تسود تقاليد حماية الأطفال بربط خيط أحمر حول معصمهم أو تعليق سكين صغيرة تحت الوسادة.
- الساحرات الشعبيات أو "الفراشارات" لا زلن جزءاً من حياة الكثيرين، خاصة في شرق صربيا.
5- تشوما : روح المرض العجوزة
في قلب الفولكلور الصربي والبوسني، تعيش أسطورة تُدعى "تشوما" (Čuma)، وهي روح أنثوية شريرة، غالباً ما تُصوَّر كعجوز نحيلة ترتدي الأبيض، تدخل البيوت ليلًا دون صوت، وتترك وراءها المرض... والموت.
يُقال إن تشوما لا تتحدث ولا تصرخ، بل تمرّ عبر الأبواب المغلقة كالنسمة، تنشر الحُمّى، وتُضعف الأجساد، خاصة الأطفال وكبار السن.
في بعض الروايات، ترتبط مباشرة بانتشار الأوبئة الجماعية مثل الطاعون والسل والحمى الإسبانية. ولهذا كانت تُسمى أحيانًا "سيدة المرض" أو "عجوز العدوى".
لردّها، كان السكان يتركون أوعية من الماء على عتبات المنازل، أو يكتبون عبارات حماية على الأبواب مثل:
" اذهبي حيث لا يُدعى عليكِ، نحن نظيفون من الذنوب والشكوى ".
وكان يُقال إن تشوما لا تدخل البيوت النظيفة، لذا كانت تُمارَس طقوس تنظيف منزلي جماعي أثناء انتشار المرض، مصحوبة ببخور وأدعية سرية.
في بعض القرى، لا تزال الجدّات يُطلقن على بعض نوبات المرض المفاجئة اسم "تشوما زارتنا"، كأنها ضيف ثقيل الظل يُخشى حتى نُطقه.
6- الجنيات فيله وساموديفا
"فيله" في صربيا و"ساموديفا" في بلغاريا هما جنيات قويات، يظهرن في شكل فتيات جميلات يرقصن ليلاً في الحقول أو الغابات ، من يراهن دون إذن يُصاب بلعنة، أو يُؤخذ معه إلى بُعد غير مرئي ، يُقال إنهن يظهرن للرجال الشجعان، ويمنحنهم القدرة على الرؤية عبر الزمان والمكان... أو يتركنهم ضائعين إلى الأبد.
- في بلغاريا، تنتشر أسطورة "الساموديفا" (Samodiva): جنيات جميلة، تغني في الغابات وترقص ليلًا في حلقات ضوء، ويُقال إنها قد تفتك بمن يراها.
- في صربيا ومقدونيا، تُعرف باسم "فيله" (Vila): مخلوقات أنثوية حارسة للطبيعة، تُكرم الشجعان وتعاقب المغرورين.
- في الأساطير الصربية، تحضر الجنية "رافيويلا" لتساعد الأبطال في ملاحم الفروسية الشعبية.
7- أماكن مسكونة
- في القرى البعيدة، هناك منازل لا يجرؤ أحد على السكن فيها رغم جمالها الظاهري ، منازل يرفض الناس دخولها بعد الغروب، حيث تُضاء الأنوار فجأة، وتُسمع خطوات من دون أن تُرى ، ففي إحدى قرى كرواتيا، منزل مهجور شهد اشتعال نيران مفاجئة لمرات عدة، رغم غياب الكهرباء أو أي مصدر حراري، ليُعرف لاحقاً بـ"منزل الفرن" ، شهود عيان تحدثوا عن ظلال تتجول، ونوافذ تُفتح من تلقاء نفسها، وأصوات خافتة لأقدام تصعد السلالم ليلاً.
- أما في صربيا، فتشتهر منطقة "زابلاسيه" بقصص البيوت التي تئنّ ليلاً، وتفوح منها رائحة بخور دون أن يشعلها أحد، ويُسمع فيها بكاء أطفال دون وجود أحد ، وفي بعض الروايات، ربط السكان هذه الظواهر بلعنات قديمة، أو دفن خاطئ لأحد الموتى دون احترام الطقوس.
- قلعة بران في رومانيا، المرتبطة بدراكولا، يُقال إن سيدةً شبحيةً بيضاء تظهر فيها.
- قلعة بتروفارادين في صربيا، تشهد ظهورات لجنود قتلى داخل أنفاقها.
- في كرواتيا، تُروى قصص عن قلاع مهجورة تسكنها أرواح النبلاء الذين ماتوا ظلماً.
- غابة هويا باكيو في رومانيا، والتي توصف بأنها أكثر غابة "مسكونة" في أوروبا، حيث يُشاهد ضوء غريب وأشخاص يفقدون الوعي.
- في بلغاريا، ترتبط بعض المقابر بأسطورة "الرصاصة الطائشة"، حيث يُقال إن من ينام قربها يسمع صرخات أو همسات.
- قلعة تراكوشكان في كرواتيا، والتي يقال إنها مسكونة بروح سيدة أرستقراطية تتجول عند الفجر.
8- روح العائلة الحارسة
في الفولكلور الصربي والكرواتي، لكل عائلة "كرسنيك" أي كيان روحي يولد مع أحد أفراد العائلة غالباً دون علمه، يُقال إن الكرسنيك لا يعرف هويته إلا بعد أول حلم يُقاتل فيه كائناً ظلياً ضخماً، أو يرى نفسه يطير لحماية بيته ، مهمته حماية الأسرة من الأرواح السوداء، خصوصاً "كودلاك" أو مصاصي الدماء ، يُحارب الكرسنيك ليلًاويستمد قوته من القمر، ويُعتقد أن الحلم الذي يراه الجد، تراه الحفيدة بعدها بعقود، كأن الميراث الروحي لا يُنسى ، يرتدي الكرسنيك في الحلم عباءة رمادية ويحمل عصا من خشب رمّان، ويقال إنه يترك "علامات" على الجدران للتحذير من الخطر، غالباً على شكل ثلاث نقاط مثلثية ، هذا الكيان لا يُذكر كثيراً لأنه يُعتبر "سر العائلة"
9- العودة من القبر والدفن بالحديد والسلاسل
خوفاً من عودة الموتى، يُدفَن بعضهم بمسامير حديدية في القلب، أو يُربطون بالسلاسل، أو يُوضع الثوم داخل الفم ، طقوس تُمارَس سراً أحياناً حتى اليوم في القرى، هي طقوس دفاعية ضد الخوف القديم من "العودة من القبر، خصوصاً لمن مات في ظروف غير طبيعية، أو في حالات الانتحار.
- في بعض المقابر في بلغاريا، عُثر على هياكل بشرية موثوقة بسلاسل حديدية أو مغروسة بمسامير في القلب، لئلا تقوم من الموت.
- في صربيا، وُضعت قطع من الثوم داخل الأفواه أو تحت الألسنة للغرض ذاته.
- في رومانيا، انتشرت قصص "الستريغوي" وهي أرواح أناس لم يُدفنوا كما يجب، فعادوا ليطاردوا الأحياء.
10 - مصاصو الدماء
أسطورة مصاص الدماء كما يعرفها الغرب ولدت في البلقان، قبل أن يُخلّدها الأدب الغربي بشخصية "دراكولا" التي ترمز لشخصية حقيقية هي لـ فلاد المخوزق المشهور بتعذيبه لأعدائه وشربه للدم في ترانسلفانيا من رومانيا التي يعتبر فيها لحد الآن بطلاً قومياً.
- في صربيا، يعود أوّل تقرير رسمي إلى مصاصي الدماء عام 1725، حين زعم القرويون أن الفلاح بيتر بلاجوفيتش عاد من موته ليمتص دماء أقاربه، مما دفع الكنيسة لنبش قبره وطعنه بوَتد خشبي.
11- كولشيدرا والتنانين
في أسطورة ألبانية قديمة، تُعرف "كولشيدرا" بأنها تنين أنثوي برؤوس متعددة، يجلب الجفاف والحرائق، يظهر في السماء على شكل عاصفة سوداء، ويواجهها بطل يُدعى "درانغوي" Drangue في السماء، وتُفسر الرعود والعواصف على أنها نتيجة لهذه المعركة.
كذلك نرى حضور أسطوري مشابه في بلغاريا ومقدونيا، ففي بلغاريا يُقام طقس غريب يُعرف بـ"جيرانا" لطردها لكي يتخلصوا من لعنة الجفاف ، لكن كولشيدرا تصور أحياناً ككائن حامٍ للكنوز ومخيف للناس.
كذلك نرى حضور أسطوري مشابه في بلغاريا ومقدونيا، ففي بلغاريا يُقام طقس غريب يُعرف بـ"جيرانا" لطردها لكي يتخلصوا من لعنة الجفاف ، لكن كولشيدرا تصور أحياناً ككائن حامٍ للكنوز ومخيف للناس.
12 - أماكن أسطورية
- مدينة الشيطان (صربيا): أعمدة حجرية ضخمة، يُقال إنها عرس تحوّل إلى حجارة بلعنة خفية.
- صخور بلوغارادشيك (بلغاريا): صخور تشبه وجوه بشرية، يُعتقد أنها أرواح نُفيت من السماء، وفي رواية أخرى يُقال أن فتاة أحبت جندياً وقُتلت ظلماً فتحوّلت دموعها لصخور.
- جبل آرطان في صربيا: يُقال إنه هرم طبيعي يشع بطاقة روحية ، زاره المئات خلال "نهاية العالم" المزعومة عام 2012.
- كوكليكا (مقدونيا): أعمدة تمثل ضيوفاً تجمّدوا خلال زفاف غدرت فيه العروس بعريسها بحسب الأسطورة.
حيث الأسطورة لا تموت
البلقان ليست مجرد منطقة جغرافية بل ذاكرة حيّة للأسطورة التي لم تُطمس. ، وراء كل جبلٍ ظلّ، ووراء كل منزل قديم حكاية، ووراء كل طقس ديني يُمارس همساً، بُعدٌ آخر لا نراه... لكنه يرانا.
هذه الأرض ما زالت تحترم المجهول، وتخشى أن تُغضب العالم الآخر.
وما زالت الأساطير تُتداول كما لو أنها وقائع من الأمس.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .