![]() |
إعداد : كمال غزال |
تنتشر نظريات المؤامرة كالنار في الهشيم في أرجاء الإنترنت، وتغطي طيفاً واسعاً من المواضيع من الزعم بأن هبوط الإنسان على سطح القمر كان خدعة تلفزيونية، إلى الاعتقاد بأن الأرض مسطّحة. في كثير من الأحيان، يرفض مناصرو هذه النظريات كل الأدلة العلمية أو الشهادات التي تناقض رواياتهم، ويعتبرون أن العلماء والخبراء المشاركين في دحض تلك النظريات ما هم إلا جزء من المؤامرة الكبرى.
لكن لماذا ننجذب لهذه الأفكار أصلاً ؟ ولماذا تنتعش رغم التقدم العلمي الهائل الذي نعيشه اليوم ؟
إليك قراءة في الدوافع النفسية والاجتماعية لانتشار الفكر التآمري
ميل الإنسان إلى إيجاد المعنىمن طبيعة البشر أنهم يكرهون الشعور بعدم الفهم أو الغموض. الفضول غريزة فطرية، ولهذا نحاول دائماً تفسير ما يحدث من حولنا. وفي الماضي، كانت الأسئلة الوجودية التي لا تجد لها إجابة تُفسَّر غالباً بإرادة قوى خارقة أو آلهة عليا. اليوم، أصبح العلم قادراً على شرح الكثير من الظواهر التي حيّرت أسلافنا، ورغم ذلك، لا تزال بعض العقول تبحث عن تفسيرات خارجة عن المألوف.
ما هي نظرية المؤامرة ؟
بحسب كارين دوغلاس، أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة كِنت البريطانية: " نظرية المؤامرة هي الاعتقاد بأن هناك جهات أو أفراداً ينسقون سراً لتحقيق أهداف معينة، وأن كشف هذه المؤامرة يكتسب أهمية عامة. " .
ويضيف البروفيسور هيوغو دروشون، المتخصص في النظرية السياسية:
" في جوهرها، تنبع نظريات المؤامرة من الاعتقاد بوجود مجموعة نخبوية خفية تتحكم بكل شيء في العالم. ولهذا نجد بعض الناس يعتقدون أن التغير المناخي مجرد خدعة تهدف للسيطرة على الشعوب."
كيف تنشأ نظرية المؤامرة وتنتشر ؟
يشير الدكتور دانيال جولي، المتخصص في علم النفس الاجتماعي، إلى أن نظريات المؤامرة تبدأ عادة كمحاولة لفهم أحداث معقدة.
" هي ببساطة حلول سهلة لمشكلات معقدة. "
ويؤكد أن هذه النظريات تنتعش في أوقات الأزمات، مثل الكوارث الطبيعية أو الأوبئة أو الأزمات الاقتصادية. في مثل هذه الأوقات، يبحث الناس عن تفسير يمنحهم شعوراً بالأمان أو السيطرة.
وفي السياق ذاته، توضح دوغلاس :
" عادةً ما تظهر نظريات المؤامرة حينما تحدث أمور مهمة يصعب تفسيرها، خصوصاً عندما يشعر الناس بالقلق أو التهديد."
مكوّنات الوصفة السحرية للانتشار
لكي تنتشر نظرية مؤامرة وتترسخ، يجب توفر عدة "مكونات":
- حدث أو أزمة كبيرة تلفت الانتباه.
- مجموعة يُحمَّل لها اللوم وتبدو "واقعية" (مثل الحكومات أو الشركات الكبرى).
- جمهور يشعر بالقلق أو الاغتراب ومستعد لتصديق الرواية.
خذ مثالاً جائحة كوفيد-19:
في وقت ساد فيه الخوف والغموض، ظهرت نظريات تربط بين الفيروس وشبكات 5G، رغم أن هذه النظرية كانت موجودة منذ فترة في أطراف الإنترنت. وفي أبريل 2020، أشارت نيويورك تايمز إلى أكثر من 100 حادثة في بريطانيا وحدها تم فيها الاعتداء على أبراج اتصالات بسبب تلك المزاعم.
الفرق بين الشك المنطقي والإيمان بالمؤامرة
من الطبيعي أن نشك أحياناً أو نُراجع ما يُعرض علينا من معلومات، لكن الفارق الجوهري هو أن المؤمن بنظرية المؤامرة لا يتأثر بأي أدلة جديدة.
يقول دروشون : " هل حاولت يوماً أن تقنع شخصاً بأن هجمات 11 سبتمبر لم تكن مؤامرة داخلية ؟ ستجد أنه يرفض الإصغاء تماماً ".
التحيز التأكيدي وغرف الصدى
معظم الناس لديهم ميل نفسي لتأكيد ما يصدقونه مسبقاً، في ما يُعرف بـالتحيز التأكيدي. فهم يستهلكون فقط المعلومات التي تدعم معتقداتهم ويتجاهلون أو يشككون في أي دليل مضاد. هذا التحيز يزداد سوءاً في ما يُعرف بـ " غرف الصدى الإلكترونية " أي المجتمعات الرقمية التي تعيد ترديد نفس الآراء، مما يخلق وهماً جماعياً بأن تلك الأفكار مقبولة أو منتشرة.
من هم الأكثر عرضة لتصديقها ؟
تشير الأبحاث إلى أن نظرية المؤامرة لا تقتصر على فئة واحدة؛ فمعتنقوها يأتون من مختلف الطبقات الاجتماعية. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يشعرون بالإقصاء أو التهميش هم الأكثر عرضة لها كالعاطلين عن العمل، أو الأشخاص الذين يعانون من الوحدة.
ويضيف دروشون: " غالباً ما يُقال إن المتدينين أكثر ميلاً لنظريات المؤامرة بسبب رؤيتهم الثنائية للعالم (الخير مقابل الشر)، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. فحتى الملحد في مجتمع ديني قد يتبنى أفكاراً تآمرية لشعوره بأنه مستبعَد."
الاحتياجات النفسية كمفتاح للفهم
توضح دوغلاس أن الإنسان يتجه نحو الإيمان بنظريات المؤامرة حين تُصاب بعض احتياجاته النفسية بالخلل، وهذه تشمل:
- الاحتياجات المعرفية (Epistemic): الرغبة في الفهم واليقين.
- الاحتياجات الوجودية (Existential): الحاجة للشعور بالأمان والتحكم.
- الاحتياجات الاجتماعية (Social): الرغبة في الانتماء والتقدير.
وهنا تكمن الخطورة: لا أحد بمنأى عن هذا التأثير. ففي لحظات الشك أو الضغط أو العزلة، قد يجد أي شخص نفسه منجرفاً نحو السرديات التآمرية، حتى دون أن يشعر.
ما بين الفهم والتشكيك
قد يعتقد البعض أن تصديق نظريات المؤامرة هو ضرب من السذاجة أو الانغلاق الذهني، لكن الواقع أكثر تعقيداً. هذه المعتقدات كثيراً ما تكون وسيلة الإنسان لتفسير العالم عندما يخونه المنطق أو يخذله الأمل.
ومن هنا، لا ينبغي أن يُقابل المؤمنون بتلك النظريات بالازدراء، بل بالحوار والرحمة ومحاولة فهم دوافعهم. فربما، في أعماقهم، لا يبحثون إلا عن شعور ضائع بالثقة… في عالم يتغيّر بسرعة تفوق قدرتهم على التفسير.
ما بين الإيمان والعقل… دعوة للتأمل
لا تُولد نظريات المؤامرة في فراغ، بل تتغذى على شعور الإنسان بالضعف أمام المجهول، وعلى رغبته العميقة في فهم ما لا يُفهم. وبين من يغرق في كل سردية مظلمة، ومن ينكر الغيب جملة وتفصيلاً، يبقى التوازن هو مفتاح النجاة.
وقد لخّص القرآن الكريم هذا الصراع بين ما نعلم وما لا نعلم في قول الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ (الإسراء: 85)
هذا الاعتراف القرآني بـ"حدود المعرفة البشرية" لا يروّج للجهل، بل يُعلّم التواضع أمام الماوراء، ويفتح باب التفكر لا الانغلاق.
وفي السياق الفلسفي، يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: " العقل البشري، بطبيعته، يسعى لطرح أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها. "
بين الإيمان بالغيب والبحث العلمي، تقف نظريات المؤامرة على الحافة. بعضها يفضح هشاشة الإدراك الإنساني أمام الفوضى، وبعضها الآخر يدعونا لإعادة التفكير في الطريقة التي نفهم بها العالم… أو التي نختار أن نفهمه بها.
حين تمتزج المؤامرة بالماورائيات: نظريات تغازل المجهول
لا تقتصر نظريات المؤامرة على السياسة أو الطب أو الاقتصاد، بل امتد تأثيرها ليشمل الظواهر الخارقة للطبيعة، حيث يجد البعض في عالم الغموض والتفسيرات غير العقلانية تربة خصبة لتغذية شكوكهم. ومن أشهر هذه النظريات:
1- الأنوناكي والسيطرة على البشر
تزعم بعض النظريات أن كائنات "الأنوناكي"، المنحدرة من أساطير سومرية، ليست مجرد رموز دينية، بل كائنات فضائية قدِمت إلى الأرض منذ آلاف السنين بهدف استعباد البشر والسيطرة على موارد الكوكب، وأن الحكومات تخفي آثارهم المتبقية إلى اليوم.
2- منظمة "الماجستيك 12" وإخفاء وجود الكائنات الفضائية
ظهرت وثائق مشكوك في صحتها تزعم وجود لجنة سرية في الحكومة الأمريكية تُعرف باسم Majestic 12، مهمتها التستر على حوادث تحطم الأطباق الطائرة مثل حادثة روزويل، وإخفاء أدلة التواصل مع حضارات فضائية.
3- مشروع الشيطان في "المنطقة 51"
ربط البعض بين "المنطقة 51" في نيفادا، وبين تجارب على كيانات غير بشرية، وربما حتى كائنات شيطانية مستحضرة عبر بوابات طاقة. يذهب البعض إلى حد الادعاء أن تلك البوابات تؤدي إلى "عوالم سفلية" وأن هناك تعاوناً سرياً بين البشر وكائنات أخرى.
4- بوابات الشيطان في آثار حضارات قديمة
يشير بعض المؤمنين بنظريات المؤامرة إلى معالم مثل بوابة الشمس في بوليفيا، أو أبو الهول في مصر، باعتبارها مداخل طاقية لعوالم خفية، وأن النخبة العالمية (أو الماسونية) تستخدمها في طقوس لاستحضار كيانات من "ما وراء الحجاب".
5- اختطاف الأرواح عبر أجهزة رقمية
نظرية حديثة تُروّج لفكرة أن بعض الأجهزة الذكية تتلاعب بالموجات الدماغية، وتُستخدم - من قبل جهات سرية - لفتح قنوات مع عوالم موازية أو كيانات غير مرئية، خصوصاً بعد تجارب أبلغ فيها أشخاص عن سماع أصوات أو رؤية كوابيس مشتركة بعد استخدام تطبيقات أو أجهزة محددة.
6- العمالقة… سلالة منسية من التاريخ ؟
تزعم نظريات عديدة أن البشرية كانت تتشارك الأرض مع سلالة من "العمالقة"، تمت إبادتهم أو إخفاؤهم عمداً. ويستند هؤلاء إلى إشارات في الكتب المقدسة (مثل "النفيلم" في التوراة)، أو اكتشافات غير مثبتة لعظام ضخمة في كهوف أو مقابر نائية.
وفق هذه النظريات، هناك جهات غالباً ما تُتهم بها النخبة أو الحكومات تخفي الأدلة لأن ظهور العمالقة قد يقلب الرواية الرسمية للتاريخ، ويعيد النظر في أصل الإنسان وهيمنته.
7- طاقة الهرم… أسرار مفقودة أم علوم مقموعة ؟
واحدة من أكثر النظريات شيوعاً في الثقافة الماورائية، وتدور حول الاعتقاد بأن أهرامات مصر — وعلى رأسها هرم خوفو — ليست مجرد مقابر ملكية، بل منشآت هندسية معقدة تم تصميمها لضبط الطاقات الكونية أو توليد طاقة حيوية تُعرف باسم "طاقة الحياة".
يعتقد مؤيدو النظرية أن هذه الطاقة قادرة على شفاء الأمراض، أو حتى فتح بوابات لأبعاد أخرى، لكن الحكومات تتكتّم على هذه المعرفة خوفاً من فقدان السيطرة على مصادر الطاقة الحديثة.
8- الكائنات الفضائية القديمة Ancient Aliens
انتشرت هذه النظرية عبر برامج مثل الغرباء القدامى Ancient Aliens وكتب مثل Chariots of the Gods، وتقول بأن حضارات الأرض القديمة مثل حضارة مصر، والمايا، وسومر، والهند لم تكن قادرة على بناء معالمها المعمارية المذهلة دون تدخل من حضارات فضائية متقدمة زارت الأرض في الماضي.
الداعمون لهذه النظرية يشيرون إلى رسومات جدارية، أو تماثيل، أو نصوص قديمة تبدو وكأنها تصف آلات طيران أو كائنات ترتدي خوذاً شبيهة بخوذات رواد الفضاء.
ويعتقد البعض أن تلك الكائنات لا تزال تراقبنا، أو أنها تعيش بيننا بشكل خفي، وربما يكون بعضها هو المسؤول عن "التحكم من خلف الستار".
وأخيراً ..
مثل هذه النظريات، رغم طابعها المثير للجدل، تنبع من افتتان الإنسان باللغز، ومن رغبته الدائمة في ربط الماضي بالحاضر عبر روايات بديلة للتي تطرحها العلوم والمؤسسات الرسمية. إنها بحث عن الانبهار المفقود في عصر مادي جاف، ورغبة دفينة في أن يكون هناك ما هو "أعظم" مما نراه على السطح.
هذه النظريات، رغم غرابتها، تعبّر عن حاجة الإنسان للبحث عن المعنى في المجهول، والربط بين ما لا يُفهم علمياً وبين قوى خفية تحرّك العالم من وراء الستار. وهي غالباً ما تستند إلى رموز غامضة، وصمت حكومي، وافتتان فطري بما لا يُرى… لكنها، في النهاية، تبقى في منطقة رمادية بين الأسطورة والواقع، وبين الإيمان والهلوسة.
إقرأ أيضاً ...
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .