![]() |
إعداد : كمال غزال |
في بلدة صغيرة تقع في أعالي جبال أبالاتشيا، بين التلال الخضراء لولاية كنتاكي الأمريكية، يقف تمثال رخامي لامرأة شابة تحمل مظلتها وتُطل بنظرة حزينة على المدينة.
ليس مجرد نصب تذكاري عادي؛ بل علامة على واحدة من أكثر الحكايات المأساوية والغامضة في تاريخ المنطقة: قصة أوكتافيا سميث هاتشر، المرأة التي دُفنت حيّة.
زواج سعيد ونهاية مأساوية
وُلدت أوكتافيا سميث في عام 1870 لعائلة محترمة في بلدة بايكفيل Pikeville بولاية كنتاكي. في عام 1889، تزوجت من جيمس هاتشر، رجل أعمال ناجح يمتلك فندقاً شهيراً في المدينة. بدا زواجهما وكأنه قصة حب مثالية، خصوصًا حين أنجبا طفلهما الأول في يناير 1891.
لكن الفرحة لم تدم طويلاً. بعد وقت قصير من الولادة، توفي الرضيع بشكل مفاجئ، تاركاً أوكتافيا غارقة في اكتئاب عميق. ومع مرور الأسابيع، بدأت صحتها تتدهور؛ أصيبت بحمى وأعراض غريبة، ثم دخلت في غيبوبة عميقة جعلت الأطباء يعلنون وفاتها رسميًا في الثاني من مايو 1891، وهي لم تتجاوز 21 عامًا.
الدفن المتعجل
في تلك الأيام، لم تكن هناك وسائل حديثة للتحقق من علامات الحياة أو الموت بدقة. صادف وفاتها موجة حر شديدة دفعت العائلة إلى التعجيل بدفنها خوفًا من تعفّن الجثة. دُفنت أوكتافيا في مقبرة عائلة هاتشر، تحت شاهد قبر بسيط.
لكن المأساة الحقيقية لم تكن في وفاتها، بل فيما جاء بعدها. بعد أيام قليلة، بدأ سكان البلدة يلاحظون أمراً غريباً: مرض مشابه انتشر بين آخرين، حيث دخلوا في غيبوبات لعدة أيام ثم استيقظوا سالمين. هنا فقط بدأ القلق يتسلل إلى قلب جيمس هاتشر:
هل دفن زوجته حيّة ؟!
فتح القبر
بدافع الرعب والأمل المستحيل، أصر جيمس على فتح قبر زوجته. وحين رفعوا غطاء النعش، صُدم الجميع بما رأوه: بطانة النعش ممزقة من الداخل ، أظافر أوكتافيا مكسورة وملطخة بالدماء ، وتعبير ذعر راسخ على وجهها.
كل ذلك كان يدل على أنها استيقظت بالفعل بعد دفنها، وحاولت ببسالة الخروج… لكن بلا جدوى. لقد ماتت مختنقة في الظلام، حبيسة نعشها الخشبي.
حكاية تتحول إلى أسطورة
لم يتعافَ جيمس أبداً من فقدان أوكتافيا بهذه الطريقة. تكريماً لها، شيّد تمثالاً رخامياً بالحجم الطبيعي فوق قبرها: تمثال امرأة واقفة، تحمل مظلة، تحدّق في الأفق كأنها تنتظر شخصًا لا يعود. على مر السنين، تحوّل هذا التمثال إلى رمز حزني، لكن لم يتوقف الأمر عند ذلك.
مع الوقت، بدأت تنتشر حول قبر أوكتافيا أساطير عديدة في أوساط سكان بايكفيل، ومنها:
- أن التمثال يدور حول نفسه كل عام في ذكرى وفاتها.
- أن شبحها يتجوّل ليلاً في المقبرة، تبحث عن طفلها المفقود.
- أن من يقف أمام قبرها ليلاً يمكنه سماع طرق خافت يأتي من تحت الأرض.
هذه الحكايات تحولت إلى مادة دسمة للحكايات الشعبية، خاصة أن الخوف من الدفن حياً كان هاجساً شائعاً في العصر الفيكتوري، مما جعل قصة أوكتافيا رمزًا لهذا الرعب.
الدفن حياً: حقيقة مرعبة في التاريخ
قصة أوكتافيا ليست الوحيدة من نوعها. في القرن التاسع عشر، لم يكن مفهوم " الموت " واضحًا كما هو اليوم، وغياب التقنيات الطبية الدقيقة أدى إلى دفن العديد من الأشخاص الذين كانوا في حالات غيبوبة أو سُبات عميق. بعض العائلات الثرية وصلت بها الوسوسة إلى ابتكار " نعوش أمان" تحتوي على أجراس أو أنابيب تنفس تحسّبًا للاستيقاظ داخل القبر.
لكن في حالة أوكتافيا، لم يكن هناك جرس ولا أمل. ما يجعل قصتها مؤلمة هو أنها ليست أسطورة خيالية، بل مأساة موثقة تخلّدها الصحف المحلية وسجلات المدينة وشاهد قبرها الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم.
زيارة قبر أوكتافيا اليوم
اليوم، لا تزال مقبرة عائلة هاتشر قائمة في بايكفيل، ويمثل قبر أوكتافيا مقصداً للزوار ومحبي الحكايات الغامضة. التمثال الرخامي، رغم تعرضه للتخريب عبر السنين (خاصة الجزء الذي كان يمثّل طفلها)، لا يزال يُحافظ على هيبته الصامتة.
أما مدينة بايكفيل نفسها، فقد احتضنت القصة كجزء من تراثها الشعبي، وتجدها مذكورة في جولات الأشباح المحلية، وأدلة السياحة، وحتى في الحكايات التي يتناقلها الطلاب والباحثون في أساطير الموت والدفن.
ما هو المرض الذي أصاب أوكتافيا ؟
تشير بعض الروايات التاريخية والمصادر المحلية إلى أن أوكتافيا سميث هاتشر ربما عانت من أعراض شبيهة بمرض يُعرف اليوم باسم داء النوم Sleeping Sickness، وهو عدوى طفيلية تنتقل عبر ذبابة تسي تسي في أفريقيا. لكن بما أننا نتحدث عن ولاية كنتاكي في أمريكا أواخر القرن التاسع عشر، فإن التفسير الأكثر ترجيحاً ليس هذا الداء الإفريقي، بل مرض عصبي أو عدوى فيروسية مشابهة أدت إلى غيبوبة عميقة وشلل عضلي مؤقت.
لم تكن المعرفة الطبية متقدمة حينها، ولم تكن توجد أجهزة لمراقبة نبض القلب أو نشاط الدماغ، ما جعل الأطباء يعجزون عن التفريق بين شخص في غيبوبة عميقة وشخص ميت فعلياً.
لهذا السبب، وعلى الرغم من أن بعض المصادر الشعبية تكرر عبارة “مرض النوم”، إلا أنه لا يوجد دليل قاطع على أنه كان المرض الإفريقي المعروف بهذا الاسم، بل على الأرجح حالة طبية أخرى ذات أعراض مشابهة.
كلمة أخيرة
قد يبدو لنا اليوم أن قصة مثل قصة أوكتافيا تنتمي إلى زمن الجهل والخرافة. لكن الحقيقة أنها تذكرنا بشيء أبدي:
الخوف من الموت، والأهم… الخوف من أن يُخطئ الآخرون في إعلان موتك.
بين كل المقابر والتماثيل الرخامية في كنتاكي، تظل أوكتافيا سميث هاتشر واحدة من أكثر الشخصيات التي تعيش في ذاكرة الناس، ليس فقط بسبب ما حدث لها، بل بسبب ما جعلته تمثّل: مأساة الإنسان الذي استسلم لمصيره، بعد فوات الأوان.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .