10 مايو 2025

Textual description of firstImageUrl

فوهة باتومسكي : لغز سيبيريا الكبير

إعداد :  كمال غزال

في أعماق الغابات السيبيرية القاسية، حيث تمتدّ التايغا بلا نهاية ويُسمع عواء الذئاب في الليل مثل همسات أرواح قديمة، تقف فوهة باتومسكي كندبة غريبة محفورة في وجه الأرض، شاهدة على حادثة لم نعرف أسرارها بعد.

هذا التكوين المخروطي الهائل الذي ظهر فجأة منذ بضعة قرون، ظل لعقود لغزاً حيّر العلماء وأشعل خيال الصيادين المحليين والمغامرين، حتى صار يُعرف بأسماء مثيرة مثل حفرة الشر وعشّ النسر الناري.

فهل نحن أمام ظاهرة جيولوجية نادرة ؟ أم أن هناك سراً مظلماً مدفوناً تحت تلك الصخور ؟ ربما أثر سقوط جسم من السماء ؟ أو حتى… بقايا زيارة من عالم آخر ؟

في هذا المقال، نأخذك في رحلة مشوّقة إلى قلب واحدة من أعظم أسرار سيبيريا، حيث تتقاطع الحقائق العلمية مع الأساطير، وحيث يغدو التفسير الطبيعي غير كافٍ لإرضاء فضول العقول المتعطشة للمجهول.

بداية القصة: اكتشاف يفتح أبواب اللغز
في عام 1949، خرج الجيولوجي الروسي فاديم كولباكوف في بعثة اعتيادية إلى غابات منطقة إيركوتسك، لكنه لم يكن يعلم أنه على وشك الاكتشاف الذي سيغيّر حياته. وسط الطبيعة الكثيفة، عثر كولباكوف على تكوين هائل من الصخور المبعثرة بقطر 160 متراً وارتفاع يقارب 40 متراً، يشبه مخروطاً هائلاً تتوسطه قبة صغيرة كأنها عشّ ضخم.

هذا الشكل الغريب جعله في البداية يتساءل: هل هو منجم مهجور؟ هرم قديم ؟  لكن الجواب كان أغرب: ظاهرة طبيعية غير مسجلة من قبل في المنطقة.

سكان القبائل المحلية (الإيفينك والياكوت) كانوا يعرفون الموقع منذ زمن بعيد، لكنهم ابتعدوا عنه دوماً، وأطلقوا عليه اسم عشّ النسر الناري، محذرين من أن الاقتراب منه يجلب اللعنة. ومع ذلك، قرر كولباكوف الدخول، ولم يكن يدرك وقتها أنه بدأ رحلة ألغاز مستمرة حتى اليوم.

ما جعل فوهة باتومسكي أكثر إثارةً هو ما كشفه علماء النباتات عند تحليل الأشجار المحيطة بالموقع:

في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، تحديداً عام 1842، أظهرت الأشجار طفرة نمو غريبة: حلقات النمو اتسعت بمعدل 3–4 أضعاف الطبيعي واستمر هذا الوضع لعشرين عامًا، ثم عاد إلى الوضع العادي.

مثل هذه الظواهر عادة ترتبط بزيادة الحرارة أو الإشعاع. فما الذي سبّب ذلك ؟ هل هو نشاط جيولوجي حراري ؟ أم وجود مصدر إشعاعي مجهول ؟

هنا بدأت القصص تتشابك مع الخيال.

الأساطير والتكهنات: من اللعنة إلى الأطباق الطائرة
بعيدًا عن المختبرات، تحتفظ الفوهة بحضور قوي في المخيلة الشعبية :

- السكان الأصليون يتحدثون عن طائر ناري هبط من السماء وترك أثره في الأرض.

- البعض يقول إن الحيوانات ترفض الاقتراب من المنطقة، وكأنها تشعر بخطر ما.

- مغامرون زاروها يروون شعوراً بالدوار أو الضيق المفاجئ عند الوقوف قرب الفوهة، بل حتى انحرافات غريبة في البوصلة.

- وفي عام 2005، حين توجهت بعثة علمية كبرى لدراسة الفوهة، توفي قائدها بنوبة قلبية مفاجئة قبل وصوله، مما زاد الاعتقاد بأن هناك قوة شريرة تحرس المكان.

- وإذا لم يكن هذا كافياً، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة نظرية أكثر جرأة: أن الفوهة ربما نجمت عن سقوط مركبة فضائية مزودة بمحرك نووي !

- عالم أحياء روسي يدعى فيكتور فورونين أشار إلى زيادة غريبة في عناصر السترونتيوم واليورانيوم في الأشجار خلال القرن التاسع عشر، وافترض أنها ربما نتيجة حادث فضائي قديم. لكن معظم العلماء يعتبرون هذه النظرية ضرباً من الخيال.

العلم يتدخل: هل هي حفرة نيزك أم بركان مخفي ؟
خلال عقود من الأبحاث، تسابقت النظريات العلمية لتفسير نشأة هذا التكوين المثير.

أول فرضية برزت كانت: نيزك هائل ضرب الأرض، خصوصاً أن الشكل المخروطي مع التل المركزي يشبه إلى حد ما الفوهات الناتجة عن الاصطدامات الكونية. بل ربطها البعض بنيزك تونغوسكا الذي انفجر فوق سيبيريا عام 1908.

لكن شيئاً فشيئاً، بدأت الأدلة تدحض هذه الفكرة:

- لم يُعثر على أي شظايا نيزكية أو عناصر كونية مثل النيكل أو الإيريديوم.

- عمر الفوهة، الذي حُدد بدقة لاحقًا عبر تحليل حلقات الأشجار، يعود إلى 300–500 سنة، أي أقدم بكثير من حادثة تونغوسكا.

- الفوهة ليست منخفضة كعادة الفوهات النيزكية، بل مرتفعة، أقرب إلى مخروط.

هنا ظهرت فرضية ثانية أكثر ترجيحاً :
انفجار بركاني أو بخاري جوفي حدث تحت السطح، قذف بالصخور المحلية (الحجر الجيري) إلى الأعلى مشكّلًا هذا التكوين.
دراسات لاحقة أكدت وجود صخور متكسرة (بريشيا) وهي من علامات الانفجارات الجوفية، وربما اندفاع غازات مثل ثاني أكسيد الكربون أو الميثان تحت ضغط عالٍ كان السبب وراء التشكل.

حتى اليوم، يُعد هذا التفسير الأكثر قبولاً علمياً، رغم أن التفاصيل الدقيقة لما حدث تحت الأرض لا تزال غامضة.

ماذا تقول البحوث الأخيرة ؟
عُقد مؤتمر علمي كبير عام 2010 في روسيا جمع أفضل الجيولوجيين لدراسة كل ما جُمع من عينات وتحليلات. النتيجة شبه النهائية ؟
الفوهة ليست نيزكية ولا فضائية، بل نتجت عن انفجار بخاري جوفي أو نشاط جيولوجي نادر تحت الأرض.

لكن رغم هذا، تظل بعض الظواهر مثل طفرات نمو الأشجار، الشذوذ المغناطيسي الخفيف، وانطباعات الرهبة من المكان، كلها بدون تفسير كامل.

إنه الموقع الذي يذكّرنا بأن العلم لا يُغلق كل الأبواب، وأن أسرار الأرض قد تبقى غامضة لعقود أخرى.


بين العلم والأسطورة
سواء كنت تؤمن بالنظريات العلمية أو تنجذب للقصص الغامضة، فإن فوهة باتومسكي ستبقى واحدة من أكثر الظواهر إثارة للفضول في عالم ما وراء الطبيعة.

إنها تذكير بأن كوكبنا لا يزال يخفي بين طياته أماكن غامضة، تحفّزنا على التساؤل، وتُبقي خيالنا حياً.

فهل نحن على أعتاب اكتشاف الجواب النهائي لهذا اللغز ؟ أم أن باتومسكي ستظل دائماً جرحاً مفتوحاً في وجه الأرض ينتظر تفسيره ؟

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ