5 أكتوبر 2025

البيت المسكون في جدة

البيت المسكون بالجن في كورنيش جدة الشمالي
إعداد : كمال غزال
في الكورنيش الشمالي لمدينة جدة، وعلى مسافة مئة متر تقريباً من البحر، يقف منزل مهجور تحول بمرور الزمن إلى أيقونة للرعب والأساطير الشعبية. يُعرف بين السكان المحليين والمغتربين باسم البيت المسكون بجدة، وتحيط به حكايات عن اختفاء 16 شخصاً دخلوا إليه ولم يخرجوا قط. ورغم مرور العقود، ما زال هذا المنزل يجذب الشباب الفضوليين والمغامرين، ليصبح مثالاً حياً على كيفية صناعة الأسطورة في الوعي الجمعي.


وصف معماري مهيب تحول إلى أطلال

كان المنزل في بدايته تحفة معمارية ذات طابع إيطالي مميز، بواجهات مزينة بالبلاط والجص، ونوافذ واسعة محمية بـ الرواشين الحديدية المزخرفة بالزجاج الأزرق والأبيض. الحديقة الأمامية كانت تزينها الدرابزينات الحديدية، والممرات الرخامية كانت تعكس فخامة سابقة ، لكن مع الزمن والإهمال، انهار الكثير من جماله ، الجدران متشققة، والأسقف سوداء من آثار حرائق ، والنوافذ تحولت إلى فراغات مظلمة كـ «عيون عمياء».

داخل الغرف تنتشر بقايا أغراض شخصية: كتب مدرسية من الثمانينيات، مجلات قديمة محترقة، وألعاب أطفال صدئة ، حتى الغربان اتخذت من السقف المتهالك مأوى لها، تزيد من المشهد رهبة عند التحليق فوقه.

الأسطورة: 16 دخلوا ولم يخرجوا

القصة الأشهر المرتبطة بالمنزل تقول إن 16 شخصاً دخلوا إلى أعماقه ولم يخرجوا مرة أخرى. هذه الرواية شاعت بين الأهالي، ووصل صداها إلى تقارير صحفية مثل أراب نيوز Arab News عام 2004، التي ذكرت الأسطورة بوضوح ، لكن رغم قوة انتشارها، لا توجد أي وثائق رسمية أو سجلات جنائية تثبت حالات اختفاء داخل المنزل، ما يرجح أن القصة وُلدت من رحم الخيال الجمعي والخوف من المجهول.

تجربة ميدانية

في محاولة لاختبار صحة الشائعات، قضى فريق صحفي ليلة كاملة في المنزل ، كانت بعض الغرف غارقة في سواد تام، والجدران المكسوة بالسواد تزيد الإحساس بالكآبة ، وجرى سماع أصوات مثل حفيف الريح وزحف الحصىوحركات القوارض فسرها الخيال على أنها «همسات» ، أحس الفريق حينها ببرودة متغيرة حيث شعروا في القبو المغمور بالماء بانخفاض غير طبيعي في درجات الحرارة ، وتوصل الفريق إلى استنتاج وهو  أنه لم يجري رصد أشباح أو كائنات ماورائية، وأن الأجواء فحسب خلقت بيئة خصبة لتضخيم الخوف الطبيعي لدى الإنسان.

المغناطيس الماورائي

لقب آخر التصق بالمنزل وهو «مغناطيس الشباب» ، فهو مقصد للمغامرين من المراهقين و«شباب الكورنيش» الذين يقتربون بسياراتهم عند الثالثة فجراً، يتحدون بعضهم البعض للدخول. وغالباً ما ينتهي التحدي بالهرب أو الوقوف عند البوابة دون جرأة لاجتياز العتبة ، القصة ليست عن جن يطاردهم، بل عن الخوف الجماعي الذي يولد «شجاعة زائفة» تنكسر عند لحظة المواجهة ،  إقرأ المزيد عن  صيد أشباح أم تقفي أسطورة ؟ 

موجة «مساكن الجن» (2012)

الهوس بالبيوت المهجورة لم يقتصر على هذا المنزل وحده. ففي عام 2012، اجتاحت السعودية موجة اقتحامات تحت شعار «اليوم الوطني لدخول مساكن الجن». مئات الشبان اقتحموا مستشفى عرقة المهجور بالرياض ومبانٍ مشابهة في مدن أخرى، ما أدى إلى حرائق وأضرار جسيمة ، هذه الظاهرة تكشف أن الأساطير قد تتحول إلى فعل جماعي يتجاوز حدود الفضول، لتصبح خطراً حقيقياً على الممتلكات والأرواح.

لماذا بقيت القصة حية ؟

جماليات الخراب: كل عنصر بصري في المنزل (الظلال، الخراب، الغربان) يثير الخوف الفطري.

الإيحاء النفسي: من يسمع القصة مسبقاً يفسر أي صوت أو حركة على أنها دليل على وجود الجن.

العدوى السردية: تكرار الحكاية عبر الأجيال رسخها كحقيقة في الذاكرة الشعبية.

غياب المعلومة الرسمية لسنوات: جعل الناس يملؤون الفراغ بالتأويلات والأساطير.

وختاماً ،البيت المسكون في جدة هو أسطورة حية صنعتها عوامل متعددة: مبنى متهالك، تخريب وحرائق، خيال شعبي خصب، وتجارب شبابية مثيرة. وبينما لم تثبت أي أدلة واقعية على وجود الجن داخله، ظل المكان مرآة للخوف الجمعي وحب المغامرة لدى الناس ، إنها قصة عن كيف يولد الماورائي من قلب الواقع: خراب معماري يتحول إلى رمز، وبيت عادي يصبح «أيقونة للرعب».

الحقيقة أن المنزل ليس سوى «سيدة عجوز» متعبة، كما وصفه أحد الصحفيين، تحتفظ رغم انكسارها بقدر من الهيبة والكرامة، بينما يواصل الناس نسج الحكايات حولها.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ