يُطلق مصطلح نداء الفراغ The Call of the Void على تلك اللحظة الغريبة التي تعتريك فجأة وأنت تقف على شرفة عالية أو بجانب قطار مسرع، فتخطر ببالك ومضة فكرة: ماذا لو قفزت الآن ؟ لا يرتبط الأمر برغبة حقيقية في الانتحار، بل هو دافع خاطف ومربك يجعل صاحبه يتساءل: لماذا خطرت هذه الفكرة في رأسي بالأساس ؟
التفسير العلمي
يرى علماء النفس العصبي أن هذه الظاهرة ليست أكثر من إشارة خاطئة من الدماغ ، فالجهاز العصبي يلتقط الخطر الخارجي (حافة مرتفعة، سيارة مسرعة) وبدلاً من الاكتفاء بإطلاق تحذير داخلي، يولد الدماغ فكرة معاكسة مفادها: "تخيل أنك فعلتها" ، المفارقة أن هذا “النداء” يعزز في النهاية غريزة البقاء، لأنه يجعلنا أكثر وعياً بخطورة الموقف.
يشير باحثو علم النفس الوجودي إلى أن هذه اللحظات الغامضة تذكّر الإنسان بأنه حر تماماً في قراراته - حتى تلك التي تناقض غريزة الحياة ، وهذا الإدراك المفاجئ للحرية المطلقة هو ما يخلق التوتر أو الذعر، فيتجلى كنداء داخلي، لكنه في جوهره تأكيد على الإرادة والسيطرة، وليس نقيضهما.
تشير دراسات منشورة في مجلة المتلازمات الفعالة Journal of Affective Disorders إلى أن نداء الفراغ ليس رغبة في إيذاء الذات، بل آلية دفاعية معقدة من الدماغ، تهدف لحمايتنا من الخطر ، وتركز على سببين رئيسيين لتلك الظاهرة :
1- غريزة البقاء Self-Preservation
عندما نقف على حافة خطر - مثل جرف أو شرفة - يدخل الدماغ في حالة وعي مفرط بالمخاطر ، يبدأ العقل بمحاكاة سيناريوهات "ماذا لو ؟ "، كنوع من التدريب الذهني لتقييم احتمالات الخطر واتخاذ رد فعل فوري عند الحاجة.
لكن أحياناً، وبدلاً من أن تُفسر هذه الإشارات كتحذير، يختلط علينا الأمر فنظن أن الدماغ يدعونا للفعل ذاته.
في الحقيقة، هذه الفكرة الخاطفة هي طريقة غير مباشرة لحماية النفس: فهي تجعلنا ندرك خطورة الموقف أكثر، فنتراجع غريزياً ونشعر بالارتياح لأننا لم نُقدم عليه. إنها رسالة عصبية تقول لنا: “احذر، لا تقترب أكثر.”
2- فرط الحساسية للمنبهات الداخلية Anxiety Sensitivity
بعض الأشخاص أكثر وعياً بإشارات أجسامهم الداخلية، مثل تسارع ضربات القلب أو توتر العضلات ، حين تزداد هذه الإشارات قرب حافة الخطر، يفسرها الدماغ القلق أحياناً كعلامة على تهديد حقيقي، فيستحضر الفكرة القصوى: القفز أو السقوط.
وهكذا لا يكون نداء الفراغ دليلاً على رغبة في الموت، بل على وعي مفرط بالحياة. إنه تأكيد ضمني على أن الشخص ما يزال متمسكاً بوجوده، لأن الذعر الناتج عن الفكرة يدفعه فوراً إلى التراجع.
التفسير الديني والروحاني
من منظور الماورائيات، تُفسر هذه اللحظة بعدة صور:
- الوسوسة الشيطانية: في التراث الإسلامي والمسيحي، يُعتقد أن الشيطان يزين للإنسان طريق الهلاك ليبعده عن الفطرة وحب الحياة.
- اختبار روحي: بعض المذاهب الباطنية ترى أن الفكرة ما هي إلا مواجهة بين النفس العليا والنفس السفلى، حيث يحاول "ظل الإنسان" أن يغويه ليختبر قوة إرادته.
- نداء الأرواح: في الفولكلور، هناك اعتقاد بأن الأرواح أو الجن قد تجذب بعض البشر نحو الموت المبكر، كنوع من الاستحواذ الخفي.
ثقافات حول العالم
- في فرنسا: شاع أصل مصطلح نداء الفراغ L’Appel du Vide في الأدب الفرنسي بوصفه نداء الموت الغامض، الذي يهمس في لحظات الصمت أو الفراغ الوجودي.
- في البوذية: يرى بعض الرهبان أن اللحظة التي يختبر فيها المرء "رغبة التلاشي" هي ومضة من إدراك الفراغ الكوني، وليس ميلاً للموت، بل وعياً بعبث التعلق بالحياة.
- في التراث الإسلامي الصوفي: يشبهها بعض الصوفيين بتجلي النفس في لحظة وعي بين العدم والوجود، حين يدرك الإنسان هشاشته أمام المطلق.
- في الأساطير الإسكندنافية: وردت حكايات عن "أرواح البحر" التي تغوي الملاحين بالقفز في الماء، وهو ما يشبه مجازياً نداء الفراغ الحديث.
امثلة عن نداء الفراغ
1- القفز من الأماكن المرتفعة
أشهر الأمثلة وأكثرها وضوحاً: يقف الشخص على حافة بناية أو جرف، وفجأة تخطر بباله فكرة “ماذا لو قفزت الآن؟ " وهي الحالة الكلاسيكية التي اشتُق منها اسم “نداء الفراغ” The Call of The Void .
2- الانحراف المفاجئ أثناء القيادة
يقود الشخص مركبته بمحاذاة الحافة أو قرب شاحنة ضخمة، وفجأة يشعر كأنه منجذب للشاحنة أو للحافة أو للحائط الخرساني ، يظن البعض أنها قوة مغناطيسية أو "نداء خفي"، لكنها في الحقيقة ومضة إدراكية دفاعية ، العقل يحاكي أسوأ احتمال ليرسخ الانتباه ويحذرك من السهو.
3- فكرة إيذاء النفس بالأدوات الحادة
كثيرون يذكرون أنهم أثناء استخدام سكين أو مقص أو شفرة حلاقة تخطر ببالهم لحظة قصيرة فكرة: “ ماذا لو جرحت نفسي الآن ؟” ، لكن، لا ترافقها رغبة حقيقية بالانتحار، بل نوع من اختبار حدود السيطرة ، إنها لحظة يذكرنا فيها الدماغ أننا نملك حرية الفعل… ومع ذلك نختار الأمان.
4- الوقوف بجانب القطار أو الحافلة المسرعة
عند انتظار القطار، يشعر بعض الناس برغبة عجيبة في التقدم نحو المسار لحظة مرور القطار ، هذا الإحساس موثق في تقارير علم النفس المعرفي ويُعتبر شكلاً من التحفيز المزدوج للخطر والتحكم: الدماغ يريد التأكد أنك تدرك الخطر وتستطيع مقاومته.
5- لمس النار أو الأجسام الساخنة
بعض الأشخاص، خصوصاً الأطفال أو ذوي الفضول العالي، يشعرون برغبة في لمس لهب الشمعة أو سطح ساخن فقط ليروا “ما الذي سيحدث”، رغم معرفتهم بخطورته ، في التحليل النفسي يُفسر ذلك بأنه صراع بين المعرفة والعاطفة — بين الرغبة في التجربة وغريزة البقاء.
6- المشي نحو الموج أو التيار العميق
في حالات العزلة أو التأمل قرب البحر، قد يشعر الإنسان بشوق غريب إلى التقدم في الماء أكثر من اللازم، كما لو أن شيئاً يدعوه إلى الغوص أو الانجراف ، في بعض الثقافات يُرى هذا “نداء البحر” كهمس الأرواح أو الجنيات البحرية، بينما يراه علم النفس استجابة وجودية للاتساع والفراغ.
7- نداء الفراغ الاجتماعي
وهو نوع رمزي أكثر: كأن يدفعك فضول غامض إلى قول شيء مدمّر في موقف حساس، مثل إفشاء سر أو جملة جارحة، رغم أنك تدرك أنها ستسبب مشكلة ، إنه نداء “الفراغ النفسي” لا المادي — اختبار داخلي لحدود السيطرة والانضباط.
التعامل مع نداء الفراغ عملياً
- تقبّل الفكرة دون ذعر: قل لنفسك "هذه مجرد فكرة"، ودعها تمر دون مقاومة. إذ أن إدراك أنها "آلية نفسية طبيعية" يقلل من خوفك منها.
- تنفس بعمق وركز على اللحظة: استخدم تقنية التنفس البطيء (شهيق ٤ ثوانٍ – حبس ١ ثانية – زفير ٤ ثوانٍ) لاستعادة هدوءك.
- ذكّر نفسك بالأمان: قل داخلك: " أنا بخير، أنا آمن، وأنا أتحكم بنفسي". هذه العبارات تعيد توازن الجهاز العصبي.
- حول انتباهك: انظر إلى شيء بعيد أو تحدث مع شخص قربك لتقطع حلقة التفكير المفرغة.
- تحدث مع شخص تثق به: مشاركة التجربة مع صديق أو مختص نفسي تزيل عنها الغموض وتجعلها تجربة إنسانية مألوفة.
ما بين الماورائيات والعلم
العلم يفسر الظاهرة كخطأ إدراكي عصبي يهدف في النهاية إلى تعزيز الوعي بالخطر بينما الماورائيات تفسرها كرسالة غيبية أو وسوسة كيانية خارجية تختبر إرادة الإنسان ، وربما تكمن الحقيقة في أن الظاهرة تحمل وجهاً مزدوجاً: فهي من جهة آلية بيولوجية باردة، ومن جهة أخرى تمثل في وعينا البشري صراعاً رمزياً بين الانجذاب للموت والتشبث بالحياة.
سواء رأينا "نداء الفراغ" كرسالة من الدماغ أو كوسوسة من قوى خفية، فهو يكشف عن لغز أعمق: هشاشة الخط الفاصل بين الحياة والموت داخل عقولنا. وقد يكون هذا هو السبب في أن الظاهرة حيرت البشر منذ القدم، وجعلتهم يتساءلون: هل كل ما يخطر في بالنا نابع منا نحن… أم أن هناك من يهمس إلينا من وراء الستار ؟
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .