4 نوفمبر 2025

موهاتا : قصر "مسكون" في باكستان

قصر موهاتا في كراتشي باكستان - قصر مسكون بالأرواح والجن
إعداد : كمال غزال
في مدينة كراتشي الصاخبة، وعلى مقربة من شاطئ كليفتون حيث تتلاطم الأمواج العربية على صخور السند، يقف مبنى من الحجر الوردي والأصفر تتداخل فيه الزخارف المغولية مع النوافذ الاستعمارية العالية ، إنه قصر موهاتا Mohatta Palace، أحد أجمل القصور التي عرفتها شبه القارة الهندية الحديثة، وأحد أكثرها إثارة للجدل أيضًا، إذ لم يكن مجرد تحفة معمارية، بل صار في الذاكرة الشعبية منزلًا للأرواح والظلال الغامضة التي لا تغادره مع حلول الليل.


من بيت للحب إلى بيت للأشباح

شُيد قصر موهاتا عام 1927 على يد التاجر الثري راي بهادور ست شيوراتن موهاتا، كتجل لحبه لزوجته المريضة. أراد أن يهبها منزلاًَ مطلاً على البحر، على أمل أن يساعدها نسيم كراتشي الرطب على الشفاء من مرضها. استعان بالمهندس المسلم أغا حسين أحمد الذي صمم القصر على الطراز الأنجلو-مغولي مستخدماً أحجار جودبور الوردية والصفراء القادمة من الجبال الصحراوية.

لكن الحكاية لم تكتمل كما أراد صاحبها. فبعد تقسيم الهند عام 1947، غادر موهاتا باكستان تاركاً القصر وراءه، فاستولت عليه الحكومة الجديدة واستخدمته لفترة كمقر لوزارة الخارجية، قبل أن يتحول في الستينيات إلى منزل للسيدة فاطمة جناح، شقيقة مؤسس باكستان محمد علي جناح. وعاشت فيه حتى وفاتها عام 1967، لتبدأ مرحلة جديدة من الوحدة والصمت.

على مدى عقود تالية ظل القصر مغلقاً ومهجوراً، تحيط به شجيرات جافة وأبواب صدئة، حتى اشتراه إقليم السند عام 1995 وحوله إلى متحف للفنون والتراث الوطني، فاستعاد شيئاً من الحياة… لكن مع عودة الزوار، بدأت تتردد حكايات لم يستطع أحد تفسيرها.

أسطورة النفق السري

من أشهر القصص التي ارتبطت بقصر موهاتا هي حكاية النفق الخفي. تقول الرواية الشعبية إن المهندس بنى نفقاً سرياً تحت القصر يصل إلى معبد شيفا البعيد لتتمكن زوجة موهاتا الهندوسية من أداء طقوسها الدينية دون أن يراها أحد.

على مدى سنوات طويلة ظل الأهالي يتناقلون القصة باعتبارها “سرّ القصر”، إلى أن أنكرتها إدارة المتحف بعد اكتشاف أن ما وُجد بالفعل ليس سوى ممر ضيق للصرف الصحي، لا يتسع لعبور إنسان. ومع ذلك بقيت القصة حية في المخيلة العامة، إذ يرى فيها البعض دلالة على «الجانب الخفي» الذي يربط هذا المكان بعوالم أخرى، روحية أو باطنية.

أصوات ليلية وأثاث يتحرك

تحدث الحراس الذين يتولون حراسة القصر ليلاً مراراً عن أصوات خطوات في الممرات بعد إغلاق الأبواب، وعن أنوار تُضاء تلقائياً رغم قطع الكهرباء ، أحدهم، ويدعى تاج محمد، روى لصحيفة محلية:

«حين كنا نعمل في الترميم، كنا نسمع أصواتاً في الغرف العليا، كأن أحداً يتحرك هناك، لكن عندما نصعد لا نجد أحداً» ، كما أكد أحد أمناء المتحف أن بعض العاملين انسحبوا من وظيفتهم الليلية بعدما شعروا بأن “شيئاً يراقبهم” أثناء جولتهم التفقدية، دون أن يتعرض أحد لأذى جسدي.

هذه القصص التي تكررت على ألسنة موظفين وزوار جعلت القصر يُلقب في الإعلام المحلي بـ "بيت الأشباح في كراتشي".

ذاكرة المكان وارتباطه بالغياب

من الناحية الرمزية، يرى باحثون في الثقافة الشعبية الباكستانية أن ما يحيط بقصر موهاتا من أساطير لا يمكن فصله عن تاريخه المليء بالرحيل والفقد. فكل من سكنه تركه في ظروف قاسية:

- المالك الأصلي الذي هاجر مضطراً إلى الهند.

- فاطمة جناح التي عاشت فيه وحيدة حتى وفاتها.

- سنوات الإهمال الطويلة التي تجمدت فيها أروقة القصر بين الماضي والاستقلال.

هذا الإرث المليء بالغياب جعل المكان يبدو وكأنه يحتفظ بـ«ذاكرة عاطفية» تنبعث كلما أُعيد فتح أبوابه. ولا عجب أن يكون موقعاً مثالياً لبزوغ الحكايات عن الأرواح التي لم تغادر بعد.

موقف الإدارة وتحليل الظاهرة

على الرغم من انتشار هذه الروايات، تنفي إدارة المتحف رسمياً أي طابع خارق للطبيعة. فقد صرح حامد أخوند، أحد أعضاء مجلس الأمناء، أن “القصص تُروى منذ زمن بعيد، لكنها لم تؤكد بأدلة واضحة”، مشيراً إلى أن ما يسمعه الناس ربما يعود إلى صدى الصوت في الممرات الحجرية الواسعة، أو إلى تأثير الرياح البحرية التي تمر عبر النوافذ المقوسة.

لكن اللافت أن الإدارة، على الرغم من هذا النفي، تحظر التصوير الليلي داخل القصر بعد انتشار مقاطع “تيك توك” التي تصور المكان كمسرح للأشباح. وقد بررت ذلك بالرغبة في الحفاظ على الهوية الثقافية للموقع وعدم تحويله إلى مادة تجارية أو خرافية.

القصر اليوم

منذ افتتاحه كمتحف عام 1999، يستضيف قصر موهاتا معارض فنية وثقافية عن تاريخ كراتشي والفن الباكستاني الحديث، ويعد من أهم الوجهات السياحية في البلاد. إلا أن صيته كمكان «مسكون» لم يخفت، بل أصبح جزءاً من جاذبيته الغامضة.

فالسياح يزورونه للتمتع بجماله المعماري نهاراً، بينما يتداول السكان قصصه ليلاً، بين من يؤمن بأنها حقيقية ومن يراها انعكاساً للخيال الجمعي الذي يخلط بين التاريخ والمعتقد الشعبي، في بلد تتداخل فيه التصوف والأسطورة منذ قرون.


ما وراء الأسطورة

سواء صدقنا تلك الحكايات أم لا، فإن قصر موهاتا يظل نموذجاً فريداً للمكان الذي تحول من رمز للحب والجمال إلى رمزٍ للغموض والأسطورة ، فهو يجسد كيف يخلد الناس في ثقافتهم ما يعجز التاريخ عن تفسيره: من سرّ تحت الأرض إلى ظلّ على جدار، ومن ضوء عابر إلى همسة لا يُعرف مصدرها.

في النهاية، يبقى السؤال معلقاً: هل ما يحدث داخل جدران القصر هو مجرد صدى للماضي، أم أن الماضي نفسه لم يغادر بعد ؟

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ