بُنيت قلعة بريدجاما في منتصف جرف صخري شاهق يبلغ ارتفاعه نحو 123 متر، وتتصل من الخلف بشبكة أنفاق طبيعية سرية جعلتها حصناً منيعاً لأكثر من 800 عام وتُعد أكبر قلعة كهفية في العالم، وقد أُدرجت القلعة في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأكبر قلعة مشيدة داخل كهف على الإطلاق، وصُنفت بين أكثر عشر قلاع إثارة للإعجاب في العالم ، كما تعيش مستعمرة كبيرة من الخفافيش في كهف القلعة، مما يضفي على المكان جواً إضافياً من الغموض والترقب في جنباته
قصة الفارس المتمرد
ظهرت قلعة بريدجاما في سجلات التاريخ أول مرة في القرن الثالث عشر تحت اسم قلعة لويغ (Luegg)، وكانت آنذاك جزءاً من أراضي الإمبراطورية الجرمانية لكن شهرة القلعة ترتبط أساساً بالفارس السلوفيني المتمرد إيرازم لوغر (Erazem Lueger) المعروف أيضاً بلقب إيرازم بريدجامسكي. عاش إيرازم في القرن الخامس عشر واتخذ من القلعة مقراً لحصنه وقواعد عملياته، حتى لُقب بـ"روبن هود سلوفينيا" نظير تمرده على الأثرياء والنبلاء لنصرة الفقراء.
نشب صراع بينه وبين الإمبراطور فريدريك الثالث (إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة) بعد أن قتل إيرازم أحد أقرباء الإمبراطور في خلاف شخصي، فاضطر إلى الفرار والتحصن داخل قلعة بريدجاما مع حاشيته.
ضربت قوات الإمبراطور حصاراً مطبقاً على القلعة عام 1484، لكنها تفاجأت بقدرة إيرازم على الصمود أكثر من عام كامل رغم عزلته. فقد استفاد الفارس المتمرد من متاهة الكهوف والأنفاق خلف القلعة لجلب المؤن وشن هجمات مباغتة خارج أسوارها دون أن يُكشف أمره ، وتروي الأسطورة أنه كان يلقي على الجنود المحاصِرين ثمار الكرز الطازج استهزاء بهم لإثبات وفرة الإمدادات لديه
إلا أن نهايته جاءت بخيانة مأساوية؛ إذ قام خادم له بعقد صفقة مع العدو وكشف لهم أضعف لحظات سيده. رفع الخادم إشارة عندما دخل إيرازم إلى حمام صغير خارج مبنى القلعة الرئيسي، فاستغل المحاصِرون تلك اللحظة وأطلقوا قذيفة مدفع أصابت الحمام مباشرة وأودت بحياة إيرازم على الفور ، سقط الفارس المتمرد صريعاً بسبب الغدر وهو في لحظة ضعف، ودُفن جثمانه - وفق الروايات المحلية - تحت شجرة قريبة من القلعة علامة لمثواه الأخير.
هذه النهاية الدرامية للفارس، إلى جانب ما عُرف عن القلعة من أقبية تعذيب وهزات أرضية وكوارث عبر تاريخها، هيأت الأرضية لظهور سمعة القلعة كمعقل للأساطير والأشباح لاحقاً.
مرويات حول الأشباح
لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت قصص الأشباح بالظهور حول قلعة بريدجاما بعد تلك الأحداث الدامية. يعتقد الكثيرون أن روح الفارس إيرازم لم تغادر القلعة قط، بل لا تزال هائمة في أروقتها تنتظر فرصة للانتقام من الخيانة التي أودت بحياته ، حتى أن بعض الوسطاء الروحانيين (Mediums) زعموا الإحساس بحضور شبح إيرازم في القلعة، وقالوا إنه "لا يزال يبحث عن الثأر" بحسب تعبيرهم.
وتتناقل الروايات سماع أصوات غامضة في جنبات القلعة ليلاً – وقع خطوات في الممرات الحجرية أو همسات وصيحات مكتومة يتردد صداها بين الجدران – دون أي شخص ظاهر في المكان.
ويعزو البعض هذه الظواهر إلى شبح إيرازم الذي يُعتقد أنه يتجوّل غاضباً، أو ربما إلى أرواح الأسرى والتعساء الذين شهدت القلعة وفاتهم المأساوية في عصور غابرة. ومن الطريف أن جيولوجية الموقع نفسها كثيراً ما تُطرح في تفسير هذه الظواهر؛ إذ إن الصخور الكارستية في كهف القلعة غنية بمعادن مثل الكوارتز والحديد، ويشير بعض خبراء ما وراء الطبيعة إلى أن هذه المعادن قد تعمل كبطارية تختزن الطاقة وتطلقها على هيئة نشاطات خارقة.
كذلك تلمح الأساطير المحلية إلى أن أرواح أولئك الذين طُمروا أحياء داخل أنفاق القلعة إثر زلزال سنة 1511 لا تزال عالقة في الكهف، تحاول إيجاد مخرج منذ قرون وقد حظيت قلعة بريدجاما نتيجة لكل ذلك بصيت دولي بوصفها من أكثر المواقع "المسكونة" إثارة للاهتمام؛ حتى أن صحيفة هافينغتون بوست الأمريكية أدرجتها ضمن قائمة أكثر خمس قلاع مسكونة في العالم، معللة اختيارها بأن «لوغر قُتل غدراً في القلعة، ويُقال إن روحه لا تزال تطوف في أرجائها».
تجارب مخيفة يرويها الزوار والموظفون
لا تزال حكايات بريدجاما حبيسة الأساطير، إذ ادعى العديد من الأشخاص على مر السنين أنهم عاشوا تجارب غريبة داخل القلعة. في عام 2008، قام فريق دولي من محققي الخوارق بزيارة القلعة ضمن برنامج Ghost Hunters International التلفزيوني، وكانوا أول من قضى ليلة كاملة في القلعة بحثاً عن أي نشاط غير طبيعي
وأعلن أعضاء الفريق أنهم رصدوا أدلة لما وراء الطبيعة، شملت أصوات خطوات مجهولة المصدر وصوت همهمة بشرية في قاعات القلعة وفراغات الكهف أسفلها بينما لم يكن أحدٌ سواهم موجوداً ، وقد عُرضت تلك التحقيقات في حلقة بعنوان "الأرواح المُعذبة"، وخلص المحققون إلى تصنيف بريدجاما كـ"قلعة مسكونة" إذا ما صحت تلك الظواهر الملتقطة ، والمثير للاهتمام أن الموقع الرسمي للقلعة نفسه أشار إلى هذه الزيارة مؤكداً أن فريق قناة ديسكفري التلفزيوني "اكتشف أن القلعة مأهولة ببعض الأشباح" خلال تحري.
أما حراس القلعة وموظفوها الحاليون فلديهم نصيبهم من الروايات الغريبة. تروي الباحثة العلمية سيرجيا كاريتس (Sergeja Kariz) التي تعمل في القلعة أنها عند إقفال الأبواب في المساء تسمع أحياناً "أصواتاً بشرية واضحة تماماً" تتردد في الأرجاء الخالية ، وتقول إن المرء قد يلمح أحياناً أشخاصاً يتحدثون من خارج نوافذ القلعة فيظن أن الصوت له تفسير طبيعي، لكن في أحيان أخرى لا يكون هناك أحد فعلاً ، وتشير سيرجيا إلى أن قطرات الماء المتساقطة في ممرات الكهف كثيراً ما تُحدث صدى يشبه وقع أقدام تتعقبك أثناء صعود الدرج، مما يزيد الشعور بالريبة ليلاً ، وعندما سُئلت إن كانت تتحقق من الأمر بالنظر خلفها، أجابت: "كلا، عادةً ما أهرب خارجة بأسرع ما يمكن!"
ورغم تصريحها بأنها شخصية متشككة بطبعها – مؤكدة أن من يؤمن بالأشباح حقاً لن يقبل العمل في القلعة ابتداء – فإنها اعترفت بأن بعض الأحداث أشعرتها بالتوتر. فحين استضافت القلعة فريق قناة ديسكفري لليلة، طلبت منهم ألا يفصحوا تماماً عما وجدوه من دلائل، معلّلة ذلك بقولها: "لا بأس أن تكتشف الأشباح ثم تعود إلى منزلك آمناً، لكن الأمر يختلف إن كنت مضطراً للعمل هنا كل يوم".
وتذكر أيضاً أن قناة فرنسية سجلت أصواتاً حقيقية في القلعة وأرسلتها إليها لترجمتها، وتقول سيرجيا بأنها تأكدت أن التسجيل يتضمن أصوات بشرية لا شك فيها – إذ كانت الكلمات مسموعة بوضوح – لكنها لم تستطع فهم اللغة المنطوقة إطلاقاً
إلى جانب شهادات الموظفين، يتناقل السياح أيضاً انطباعات وتجارب غريبة خلال زياراتهم للقلعة. العديد من الزوار والقائمين على الجولات أكدوا شعورهم ببرودة مفاجئة في بعض قاعات القلعة أو كأن هناك من يراقبهم دون أن يروا أحداً، وذلك أثناء تجوالهم في الممرات الحجرية وحدهم ، وأفاد آخرون بسماع أصوات أقدام تتحرك في غرف خالية أو وشوشات وهمهمات مبهمة تخرج من بين الجدران السميكة.
وعلى مر السنين، ظهرت صور يدعي ملتقطوها أنها لأشباح أو ظلال غريبة في نوافذ القلعة المظلمة. إحدى تلك الصور انتشرت على نطاق واسع قيل إنها تظهر هيئة شخص خلف زجاج نافذة إحدى الغرف، لكن اتضح لاحقاً أنها لم تكن سوى انعكاس لتمثال موجود داخل القاعة. ورغم دحض تلك الصورة، ساهمت وأمثالها في تأجيج السمعة المخيفة لبريدجاما وإثارة فضول المزيد من الباحثين عن الغرائب فيها.
صدى الأسطورة محلياً
يرى بعض أبناء سلوفينيا أن سمعة "القلعة المسكونة" ربما جرى تضخيمها لغرض الجذب السياحي أكثر من كونها معتقداً محلياً راسخاً. فقد علق أحد السكان على الإنترنت قائلاً إنه لم يسمع في حياته أحداً يؤكد أن القلعة مسكونة فعلاً، وكل ما في الأمر أنها معروفة بقصة الفارس المتمرد إيرازم لا غير
هذا التفاوت في الانطباع يشير إلى أن قصص الأشباح في بريدجاما تُروى غالباً لإثراء التجربة السياحية وإرضاء فضول الزوار المهتمين بـ ما وراء الطبيعة، بينما يتعامل معها السكان بروح الأسطورة والفولكلور أكثر من أخذها على محمل التصديق.
ومما يلفت النظر أن الجهات الرسمية نفسها لم تتردد في توظيف هذا الجانب الغامض من القلعة، بحيث جاء على الموقع السياحي الرسمي ذكر صريح لاستضافة فريق أبحاث تلفزيوني وأنه «اكتشف أن القلعة مأهولة ببعض الأشباح» خلال ليلته هناك ، وهكذا، أصبحت أسطورة بريدجاما المسكونة عنصرًا من عناصر الجذب، تضفي على القلعة مزيدًا من التشويق وتربط بين تاريخها الواقعي وحكاياتها الأسطورية في ذاكرة الزوار.
نبذة عن كمال غزال
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".



0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .