![]() |
إعداد : كمال غزال |
في الأرخبيل الإندونيسي، حيث تتجاور المعابد القديمة مع ناطحات السحاب، لا يزال عالم خفي يسكن بين الناس… عالم يُعزى إليه المرض المفاجئ، والفقر غير المبرر، والخلافات التي لا تهدأ، والحب الذي ينقلب هوساً.
هناك، لا يُنظر إلى هذه الأمور على أنها مصادفات عابرة، بل كإشارات إلى سحر خفي يتسلل من وراء الحجاب بين العالم المرئي والعالم الروحي.
هناك، لا يُنظر إلى هذه الأمور على أنها مصادفات عابرة، بل كإشارات إلى سحر خفي يتسلل من وراء الحجاب بين العالم المرئي والعالم الروحي.
في قلب هذا الموروث يقف الدُّكون، أو المعالج الروحي، الذي يراه البعض حارساً للغيب وشافياً للأرواح، فيما يراه آخرون ساحراً يبيع الوهم ويستدعي القوى المظلمة. إنه الشخص الذي يُستدعى ليفك ربطاً، أو ليزرع محبة في قلب غافل، أو ليصد شراً يُعتقد أنه أُرسل من بعيد. ورغم الجهود الدينية والقانونية لكبح هذه الممارسات، تبقى جذورها ضاربة في وجدان الشعب الإندونيسي، تتجدد بصيغٍ مختلفة مع كل جيل.
أما القصص التي تصل إلى العالم الخارجي : عن خادماتٍ يحملن تمائم في المطارات، أو عن قطط مقطوعة الذيل قيل إنها تُستخدم في طقوسٍ غامضة فهي لا تعدو أن تكون جزءاً من صورةٍ أكبر، تتداخل فيها الحقيقة بالأسطورة، والعقيدة بالخرافة.
في هذا التحقيق، نغوص معاً في تلك الصورة بكل ظلالها: من التمائم والعزائم التي تُعلق على الأجساد والمنازل، إلى الطقوس الأكثر غرابة مثل السوسوك والسَّنتِت، في محاولة لفهم كيف يتعايش الإندونيسيون مع عالم غير مرئي يُؤمنون أنه يسكن بينهم منذ قرون.
من هو “الدُّكون” وما أدواره ؟
كلمة دكون Dukun في اللغة الإندونيسية تُشير إلى “شامان / معالج شعبي / وسيط روحي”، وقد يتداخل دوره بين الطب الشعبي، التعاويذ، تحضير التمائم، والتواصل مع الأرواح.
يُميز البعض بين دكون “نقي/شفائي” وبين دكون سانتت dukun santet الذي يُمارس السحر الأسود (أذى للآخرين).
المهارات التي يلم بها بعض الدُّكون تشمل: قراءة الطاقات، النطق بالتعاويذ ( مانترا mantra أو jampi)، استخدام النباتات/الأعشاب، استخدام تمائم، الكهانة بالأحلام، وطلب الطاقة الروحية أو الأرواح لمساعدة أعماله.
في بعض المناطق، يُكتسب هذا الدور بالوراثة أو بالتعلم من روح المرشد أو الشيخ الروحي، ولا يُعلن عن كثير من التفاصيل للعامة.
إذاً، الدُّكون هو الممارس الوسيط بين العوالم المادية والروحية. ما يهمنا هو: ما هي الطقوس التي يستخدمها؟ وما هي التمائم والعزائم التي يوزّعها أو ينفذها؟
السحر المؤذي / السحر عن بُعد (سانتت)
يدعى بـ سانتت Santet / Teluh / Tenung ويستخدم فيه “وسائط” مثل شعر الضحية، الأظافر، قطعة من قماش، دمية صغيرة، إبر، شظايا زجاج، دم، كتابات تُكتب على ورق وترمى أو تُحرَق ويكون هدفها إلحاق المرض، الأذى، الأمراض، الفشل، العقم.
وفق المعتقد الشعبي، قد يُعد الدُّكون قطعة قماش أو دمية يُكتب عليها اسم الضحية، مع إضافة إبر أو قطع زجاج أو دم، ثم تُرسل هذه الطاقة إلى الضحية عن بُعد، فتبدأ بعد فترة أعراض غامضة (وجع مفاصل، دوار، إعياء، هلوسات) ، وفي بعض المرويات أن الضحية “تقيأت إبراً” أو زجاجاً مما كان موضوعاً بـ "الطاقة".
سحر المحبة (بيليت)
يدعى بـ بيليت Pelet / Pengasihan أو سحر جذب القلوب ، حيث يدعي المعالج أنه يرسل طاقة أو “عزيمة حب” إلى شخص ما عبر التعاويذ أو الأسماء أو أشياء رمزية ، ويهدف هذا السحر إلى أن يحب الطرف المستهدف، أو ينجذب إليك، أو يُهيأ الرضا بين الزوجين ، ويُنظر إليه أحياناً كنوع من “السحر الأبيض” أو بين الحدود بين الحب الطبيعي والتأثير الروحي. إقرأ المزيد عن سحر المحبة أو جلب الحبيب.
إبر سحرية مزروعة تحت الجلد (سوسوك)
يدعى بـ سحر سوسوك Susuk وهي عبارة عن إدخال إبرة صغيرة (عادية أو معدنية – ذهبية في بعض الأحيان) داخل الجزء الرخو من الجسم (الوجه، الصدر، العنق، اليدين) لزيادة الجاذبية، الحظ، الكاريزما، الحماية من الحسد أو الشر، وقد جرى توثيق حالات طبية بأشعة تؤكد وجود الإبر تحت الجلد عند المرضى الذين لم يكونوا يعلمون بوجودها.
تُروى قصص لنساء يُعتقد أنهن “يضعن سوسوك” قبل مقابلة عمل أو مقابلة زوجية؛ عملية الزرع تتم في جلسة قصيرة، مع تعليمات “امتناع” عن أطعمة معينة.
تُعد حالة فتاة “ريانيتي” مثالًا للصحافة الإندونيسية، تقول إنها زرعت سوسوك في وجهها للحصول على الترقية في العمل، من الناحية الطبية، تم رصد إبر بقطر 0.5–1 ملم وطول 5–10 ملم في أنسجة مختلفة في بعض المرضى، كما ورد في دراسات أشعة أسنان وغيرها.
سحر السيطرة المظلم (بوبوك)
في تقاليد شعب باتاك (شمال سومطرة) يتم إجراء طقوس قاتلة تدعى بسحر بوبوك (اختطاف طفل، غليه، تقطيعه واستخلاص مادة سائلة تُركب في تمائم) أو تعديل الروح المستخرجة لتجعله خادماً روحانياً يُستدعى ، ويهدف إلى تقديم قوة، حماية، تدمير أعداء، ربما السيطرة على أرواح ، هذه الممارسة من أكثر الممارسات المظلمة، وقد ذكرها المؤرخون في وثائق الباتاك.
يُعتقد أن معالج "داتو" (datu) قد يخطف طفلاً، يجعله يشرب معدناً مسالاً أو يُقتل، ثم يُستخدم جسده وروحه في صنع تعويذة قوية جداً. تُخزن المادة في وعاء خاص (مثل قرن الثور – naga morsarang) ويُستخدم لتعزيز القوى الروحية أو إلحاق الأذى بالأعداء.
لدى شعب باتاك كتب سحرية "بوستاها" Pustaha تُدون فيها التعاويذ والطقوس والمعارف السحرية (طب، حماية، أذى) وتكون مرجعاً للمعالجين / الداتو / datu لتنفيذ طقوس أو وصفات Pustaha وهي تراث كتابي في ثقافة باتاك، وتضم التعاويذ والأعمال البيضاء والسوداء.
التعويذات المقروءة والمكتوبة (مانترا / جامبي)
تُدعى مانترا أو جامبي Rajah / Jampi / Mantra وهي تعويذات مكتوبة أو مقولبة وهي عبارة عن كتابة رموز أو نصوص ، ربما بدم، حبر، نقش على ورق أو ورق نباتي، أو ترديد “mantra” أو “jampi” بصوت معين ، ويُزعم بأنه لها تأثير روحي منطوق (مثلاً أن تُقرأ على ماء أو تُضاف إلى طعام) ، كثير من طقوس الشفاء أو الحماية تبدأ بـ “قراءة التعويذة على ماء يُشرب” أو “حرق الورق فوق النار أمام المريض”.
تمائم للحماية (أزيمات / جِمات)
يشيع استخدام تمائم تدعى أزيمات أو جِمات (Jimat / Azimat) كقطع معدنية وحجارة، كتب عتيقة مكتوبة، أوراق مطوية، أو نقوش تُعلق في المنزل أو تُلبس كقلادة، يُعتقد أنها تقي ضد “الحسد” أو “الشر” أو تجلب البركة. المعالج قد يطوّي التميمة بطقوس: قراءة تعويذة، تغميسها في ماء، رشها في المكان أو تضمينها في هيكل المنزل.
الشفاء من السحر بنفس الطقوس
بعد أن يُعتقد أن شخصاً تعرض “لسحر”، يُذهب إلى الدُّكون ليكشف من هو صانع السحر، ويقوم بطقوس إزالة (تطهير): كأن يُطلب منه أن ينام في مكان طاهر، يقرأ التعويذات، يُرش عليه ماء مقروء، يُحرق الطلاسم، يُعطي تميمة واقية، أو يُجري طقساً عكسياً.
الوساطة الروحية / استدعاء الأرواح
هي طلب “مساعدة” كائنات أو أرواح وقد يُستخدم فيها الوسيط روحي أو الإلهام المستمد من كيان روحاني، أحياناً تشمل عقد اتفاقات روحية أو توظيف القوة الروحية لكشف سر، شفاء، تأمين، إلخ ، في بعض الحالات يُعتقد أن الدُّكون يعقد صفقة مع أرواح (جن) لأداء الأوامر الروحية.
ذيول القطط المقطوعة في إندونيسيا
أشاعت بعض مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى القطع العمد لذيول القطط لاستخدامها في أعمال السحر ، فهل هذا صحيح ؟
في الواقع كثير من القطط في إندونيسيا وجنوب شرق آسيا قصيرة الذيل أو معقوفته طبيعياً بسبب طفرة جينية في الجين HES7 (وغيره) موثقة في دراسات جينية محكمة؛ والصفة سائدة ومدونة منذ القرن التاسع عشر. هذا يفسر انتشار “الذيل الكروي/المعقوف” في بالي وجاوة دون حاجة لفرضية “القطع”، لذلك الادعاء بأن “الإندونيسيين يقطعون ذيول القطط لاستخدامها في السحر” غير مدعوم علمياً أو صحفياً بمصادر موثوقة، ويصطدم بتفسيرٍ جيني راسخ لهيئة ذيول هذه القطط.
الخادمات الإندونيسيات والتمائم
في الصحافة الآسيوية تظهر من حين لآخر أخبار عن أرباب عمل يعثرون على تمائم أو أشياء “غير مألوفة” في أدراج عاملات منازل، وغالباً تُفسر كسحرٍ للإخضاع أو لجلب القبول. لدينا أمثلة صحفية (هونغ كونغ/سنغافورة) ذكرت العثور على “أشياء غريبة” والاعتقاد بشُبهات “سحر”، لكنها تظل وقائع متفرقة لا ترقى إلى “ظاهرة مطارات”.
في المقابل، هناك أيضاً قضايا شهيرة تثبت هشاشة الاتهامات مثل قضية الإندونيسية بارتي لياني في سنغافورة التي بُرِّئت بعد معركة قضائية كبيرة، وأثارت نقاشاً واسعاً عن تحيزات ضد عاملات المنازل.
المهم هنا: أن التمائم أزيمات وجِمات (jimat/azimat) والسحر موجودان ثقافياً وبعض العاملات قد يحملن أشياء رمزية للحماية أو “جلب التيسير”، لكن ربط ذلك تلقائياً بنوايا خبيثة أو بـ“أسحار لإخضاع الكفيل” هو تعميم متسرع ما لم يَثبُت دليل قاطع في كل حالة.
القانون: ماذا تجرم المادة 252 ؟
القانون الجنائي الإندونيسي الجديد رقم 1 لسنة 2023 أدخل مادة 252 التي لا تجرم “السحر” بذاته، بل تُجرم الادعاء بامتلاك قوى خارقة لإلحاق الأذى أو لتحقيق مصلحة (جريمة شكلية تقوم على الادعاء والعلاقة السببية المقصودة، لا على “إثبات الأذى الغيبي”) مع ملاحظات على صعوبة الإثبات. كما تُذكر تقارير حقوقية بخطورة توسيع “القانون الحي” في الإثبات. علماً أن دخول القانون حيز التنفيذ الكامل محدد في 2 يناير/كانون الثاني 2026.
خلاصة قانونية: الدولة تُجرم “الادعاء المؤذي” واستغلال معتقدات الناس، لا الطقوس الشعبية في ذاتها، وهو ما يضع “السحر المؤذي/السنتِت” في خانة الاحتيال أو التهديد أكثر من كونه إثباتاً لـ“فعل غيبي”.
كيف تُفهم هذه الطقوس في الثقافة الإسلامية الإندونيسية ؟
في غالبية المناطق المحافظة، يُحرم السحر رسمياً في الإسلام، ويُعتبر من الأعمال الشركية الضالة، لكن بعض الناس قد يستخدمون هذه الممارسات تحت “غطاء ديني” أو يبررونها بأنها “دعاء سري” أو “رُقية مكتومة”.
بعض الدُّكون والوسطاء يدمجون نصوصاً إسلامية (آيات قرآن أو أسماء الله) ضمن طقوسهم لتقليل الاتهام بالضلال وتحسين القبول الاجتماعي.
في الصحافة الإندونيسية، يُشار إلى أن كثيراً ممن يستخدمون سوسوك susuk أو التمائم يقولون إنها “لمسة تجميلية أو حماية” وليس سحراً، وهو تسوية لفظية لتجنب الاتهام.
انتشار هذه الممارسات لا يعني أنها تُنفذ على نطاق واسع وبشكل موثوق في كل حالة؛ كثير من القصص المتناقلة قد تكون مبالغات أو خلطاً بين الخرافة والمرض النفسي أو الأمراض التي لا يستطيع الطب تفسيرها فوراً.
من الصعب إثبات علاقة سببية بين تعويذة وسوء حالة، مما يجعل كثيراً من الادعاءات متوهمة أو قائمة على الاعتقاد وحده.
توثيق طبي لحالات سوسوك susuk يُعطيها بعداً فعلياً، لكنها ليست دليلاً على أن كل شخص يزعم أنه سحر قد وقع ضحية له.
بعض القضايا في التاريخ مثل قَتّال السحر أحمد سورادجي (Ahmad Suradji) تُظهر كيف يمكن أن تلتقي الممارسات الروحية المتطرفة بالجريمة الفعلية، حيث ادّعى أنه نفّذ طقوساً قاتلة كجزء من ممارساته الروحية.
توجيهات للقارئ العربي
إذا لم يسبق لك التعرف على هذه الممارسات، فإليك ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار:
- طقوس السحر في إندونيسيا متنوعة جداً: من تمائم بسيطة واقية إلى طقوس معقدة وسحر قاتل (مثل بوبوك pupuk).
- ليست كل “تميمة” أو “قطعة سحرية” مضرة أو تُستخدم للنيل من خصم؛ في كثير من الحالات تُستخدم للحماية أو لجلب البركة وهنا يقع الاختلاف بين الاعتقاد الخيري والطلب الخبيث.
- إن توثيق طقوس مثل سوسوك susuk أو بوبوك pupuk ليست إدانة لكل ممارس أو كل من يعتقد بهذه الممارسات، لكنها تُشير إلى أن بعض الممارسات قد تكون مؤذية أو تحمل مخاطر ، خصوصاً حين تتقاطع مع القانون أو الدين.
- من المهم عند قراءة مثل هذه القصص أن تسأل: ما الدليل ؟ هل وُجِدت تأكيدات طبية أو قانونية ؟ هل يُعترف رسمياً بأن هذه الحالة “سحر” أم أنها تشخيص من أهل الاعتقاد ؟
أخيراً، يجب احترام أن هذا الموروث جزء من ثقافات محلية، وليس مجرد احتيال فوري. من الأفضل التعامل معها بحذر، وبعقلانية، وباحترام للمعتقدات والناس، مع التفريق بين المعتقدات الثقافية وبين الجرائم الفعلية.
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .