2 أغسطس 2025

الدوديكاهيدرون الروماني: اللغز المعدني الذي حيّر علماء الآثار

قطعة بلا تفسير: التحقيق في أسرار دوديكاهيدرون روماني
إعداد :  كمال غزال

في عالم الآثار، قلما نجد قطعة أثرية تثير جدلًا مستمراً بين العلماء دون أن تترك خلفها أي أثر كتابي أو نقش يفسر معناها ، إحدى هذه القطع المحيرة هي ما يعرف بـ الدوديكاهيدرون الروماني Roman Dodecahedron، وهي قطعة معدنية صغيرة، هندسية الشكل، متعددة الأوجه، تواجدت في أنحاء أوروبا، تعود إلى ما بين القرنين الثاني والرابع الميلادي، لكنها بقيت إلى يومنا هذا دون تفسير قاطع لوظيفتها أو رمزيتها.


وصف القطعة: تصميم معقد يتحدى التفسير

يتكون الدوديكاهيدرون من 12 وجهاً خماسي الشكل (شكل الدوديكاهيدرون المنتظم في الهندسة الصلبة)، كل وجه منها يحتوي على ثقب دائري يختلف حجمه عن الآخر، وتتوزع على زوايا المجسم عقد بارزة صغيرة على هيئة كرات، تتفاوت أبعاد هذه القطع ما بين 4 إلى 11 سنتيمتراً، وهي جميعها مصنوعة من البرونز أو سبيكة نحاسية، وقد أُتقنت صناعتها بتقنية الصب بالشمع المفقود، ما يدل على حرفية عالية.

المثير في هذه القطعة عدم وجود نقش أو رمز أو دليل كتابي يفسر طبيعتها أو استخداماتها، ولا تظهر أي وثيقة رومانية معروفة تفسرها مما يجعلها إحدى أكثر الألغاز الأثرية إثارة للحيرة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.

أماكن العثور وعدد القطع المكتشفة

تم حتى اليوم اكتشاف نحو 120 إلى 130 قطعة من هذه الأجسام الغامضة في دول مثل فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، بريطانيا، سويسرا، النمسا، وهولندا، وغالباً في المواقع التي كانت تحت الحكم الروماني في شمال وغرب أوروبا، وهو ما يفسر سبب تصنيفها أحياناً ضمن الثقافة "الغالو-رومانية" ، اللافت عدم العثور على أي قطعة منها في إيطاليا نفسها، مركز الإمبراطورية، مما يوحي بأنها كانت أداة إقليمية أو طقسية محلية.

وقد وُجد بعضها في مقابر، وحصون، وكنوز مدفونة، وأحياناً في أماكن دينية أو على مقربة من معابد قديمة، ما يعزز من فرضية أنها كانت بمثابة قطع ثمينة أو رمزية.

النظريات المقترحة لوظيفتها


1- أداة قياس أو مسطرة هندسية ؟

اقترح بعض الباحثين أن الدوديكاهيدرون كان يُستخدم كأداة لقياس الزوايا أو المسافات، أو حتى لتحديد توقيت الزراعة من خلال مراقبة الشمس عبر الثقوب. غير أن غياب أي علامات قياس أو توحيد في الحجم بين القطع يُضعف هذه النظرية.

2- أداة للغزل أو النسيج ؟

هناك نظرية شائعة تقول إن هذه القطعة استُخدمت كأداة لصناعة القفازات عبر تمرير خيوط الغزل من خلال الثقوب، وتتناسب الثقوب المختلفة مع مقاسات أصابع اليد ، إلا أن هذه الفرضية لا تستند إلى أدلة أثرية مباشرة، بل تعتمد على محاكاة معاصرة. كما أن تقنية "التريكو عبر الثقوب" لم تظهر تاريخياً إلا في العصور الوسطى.

3- شمعدان أو حامل للشموع ؟

طرحت بعض الفرضيات أن الثقوب وكون القطعة مجوفة يدل على أنها كانت تُستخدم كحامل شموع، يضفي أنماطاً ضوئية في الظلام ، غير أن التجارب أثبتت عدم استقرارها كشمعدانات، وندرة وجود آثار سخام داخلها يُضعف هذه النظرية أيضاً.

4- أداة ألعاب أو لعبة أطفال ؟

نظراً لشكلها الهندسي اللافت، هناك احتمال أن تكون لعبة مخصصة للأطفال أو حجر نرد متعدد الوجوه، لكن التفاوت في الوزن والتوازن لا يجعلها مناسبة لهذا الغرض، كما لا يوجد دليل على وجود ألعاب مماثلة آنذاك.

5-  رمز حرفي أو قطعة استعراض فنية ؟

اقترح بعض الباحثين أنها كانت قطعة فنية تبرز براعة الحداد أو الحرفي الروماني، أو مجرد "قطعة عرض" غير عملية، وهي فرضية تعززها دقة التصنيع وعدم وجود علامات استخدام.

الاحتمال الطقسي أو الرمزي: الأرجح حتى الآن

في السنوات الأخيرة، بدأ عدد من الباحثين يميلون إلى اعتبار الدوديكاهيدرون قطعة طقسية أو رمزية ذات طابع ديني أو غيبي، وربما استخدمت في الطقوس السحرية أو التنجيم أو العرافة ، وقد صرح فريق من المتحف الغالو-روماني في بلجيكا أن هذه القطعة "ربما كانت تستخدم في الطقوس التنبؤية أو السحرية.

ويُعزز هذا التوجه ما ورد في فلسفة أفلاطون عن شكل الدوديكاهيدرون، حيث وصفه بأنه "الشكل الذي استخدمه الخالق لترتيب الكون"، وهو يمثل في الهندسة المقدسة الزودياك أو الأبراج الاثني عشر، ما يفتح الباب أمام تفسيرات فلكية رمزية ، ولعل الاكتشاف الأهم في هذا السياق كان في مدينة جنيف عام 1982، حين عُثر على دوديكاهيدرون مصنوع من الفضة ونُقشت عليه أسماء الأبراج الاثني عشر، وهو ما يدعم نظرية الارتباط الفلكي.

وفي إحدى المقابر في ألمانيا، عُثر على دوديكاهيدرون بجانب قطعة عظمية على هيئة عصا، ما فسره البعض بأنه ربما كان يُثبّت على رأس عصا أو صولجان، ويُستخدم كرمز لكاهن أو عرّاف في طقس ديني.

التحقيقات الحديثة والآمال المستقبلية

في عام 2023، عُثر في بريطانيا على قطعة دوديكاهيدرون شبه كاملة في موقع نورتون ديزني  Norton Disney، وقد وصفها الباحثون بأنها "اكتشاف غير مسبوق"، وأشاروا إلى احتمال وجود بقايا مواد عضوية داخلها قد تكشف عن استخدام طقسي أو سحري. التحاليل لا تزال جارية، ويأمل العلماء أن تُسفر عن أدلة جديدة تُزيح الستار عن الغرض الحقيقي من هذه القطعة الغامضة.

قطعة خارج الزمان

تبقى الدوديكاهيدرون الرومانية لغزاً أثرياً ساحراً، يقف على تخوم العلم والخيال، العلم والتنجيم، الحرفة والرمزية، لم يتمكن أي من الفرضيات، رغم كثرتها، من تفسيرها بشكل نهائي ، وربما كما قال أحد الباحثين: " الحقيقة الأثرية ليست دائماً في ما نراه، بل فيما لم يُكتب قط".

فهل كانت رمزاً كونياً ؟ أداة سحرية ؟ أم مجرد لعبة طُويت معها أسرارها في طيات الزمن ؟

الجواب.. ما زال مجهولاً.

1 تعليقات:

غير معرف

يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة ... وبعد
شكرا لكم على مجهودكم المتميز 🌷🌷🌷

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ