في زاوية مظلمة من تاريخ الطب والجريمة، تتوارى قصة تبدو وكأنها خرجت من فيلم رعب، لكنها كانت واقعاً معاشاً في اسكتلندا أوائل القرن التاسع عشر. في تلك الحقبة، ظهرت ظاهرة غريبة وغير مألوفة: أقفاص حديدية تُثبت فوق القبور، تثير الرعب والدهشة في آن واحد، حتى أن البعض اعتقد أنها صُممت لمنع الموتى من العودة إلى الحياة على هيئة زومبي أو مصاصي دماء.
لكن الحقيقة كانت أكثر واقعية… وربما أكثر رعباً.
خلفية علمية… أم فوضى أخلاقية ؟
في عام 1816، نشأت فكرة قفص الفاني Mortsafes أو ما يعرف اليوم بـ"أقفاص الجثث"، نتيجة لتفشي ظاهرة سرقة الجثث من المقابر.
كان طلاب الطب حينها يعانون من قلة الأجساد المتاحة للتشريح، فوجد بعضهم ضالتهم في المقابر حديثة الدفن. وسرعان ما تحولت المسألة إلى تجارة سوداء، إذ بدأ بعض المجرمين في سرقة الجثث وبيعها لكليات الطب لقاء مبالغ مجزية.
الغريب في الأمر أن السلطات الاسكتلندية لم تتدخل بحزم، بل تغاضت عن الظاهرة تحت مبرر أنها تساهم في تقدم الطب والمعرفة، وهو ما أدى إلى ازدياد حالات تدنيس القبور، خاصة في المدن القريبة من كليات الطب.
من الرعب إلى الحماية
ومع اتساع رقعة هذه الجريمة، لم يجد الناس وسيلة لحماية موتاهم سوى اللجوء إلى حلول مبتكرة، فابتكروا أقفاصاً حديدية تُثبت فوق القبور، وتُقفل بإحكام، لمنع أي محاولة لنبشها ،وقد رُصفت حجارة ثقيلة فوقها أحياناً ، أو غُطيت بأغصان متشابكة خاصة من قِبل الفقراء الذين لم يكن بوسعهم تحمل كلفة الأقفاص المعدنية، أما الأثرياء، فقد شيّدوا أضرحة محصنة، وزوّدوا مقابرهم بحراس شخصيين، في مشهد عبثي يعكس خوف الأحياء من الأحياء… لا من الأموات.
نهاية حقبة… وولادة أسطورة
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، بدأت هذه الظاهرة بالتراجع، مع سنّ قوانين تنظم عملية التشريح وتتيح التبرع الطوعي بالجثث. وبمرور الوقت، تحولت أقفاص الجثث إلى أثر تاريخي غريب، وبدأت الشائعات تحيط بها، خاصة مع رواج قصص مصاصي الدماء والزومبي في الثقافة الشعبية. وتحول الغرض منها من أداة حماية إلى مادة خصبة للأساطير والروايات المرعبة.
تقييد الموتى في عصور الظلام
رغم أن أقفاص الجثث الاسكتلندية كانت تهدف لحماية الموتى من طلاب الطب، فإن فكرة تقييد الموتى لم تكن جديدة على العقلية الأوروبية، فقبلها بعقود، وتحديداً في القرن الثامن عشر، كانت أوروبا غارقة في خرافات تتحدث عن موتى لا يعرفون الراحة، يُقال إنهم يعودون للحياة على هيئة مصاصي دماء أو أرواح شريرة، تُرهب الأحياء وتُفزع القرى.
في تلك الفترة، انتشر تقليد دفن الجثث بسلاسل حديدية أو في أقفاص معدنية، لا حماية من السارقين، بل لمنعهم من النهوض مرة أخرى. وقد جرى تطبيق هذه الطقوس الغريبة على من يُعتقد أنهم سحرة، زنادقة، أو متهمون بالتواصل مع قوى خارقة.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك قصة آنا ماريا فون ستوكهاوزن، النبيلة الألمانية التي وُلدت عام 1737، واتُّهمت ظلماً بالسحر وعبادة الشيطان بسبب طقوس دينية واتهامات كيدية من كاهن محلي. بعد محاكمتها وسجنها حتى وفاتها عام 1781، لم تُمنح حتى راحة الموتى، إذ وُجد قبرها لاحقاً مقيداً بالسلاسل، بناءً على الاعتقاد أنها قد تعود من الموت.
وقد أُعيد اكتشاف قبرها في سبعينيات القرن العشرين، ما سلط الضوء من جديد على ممارسات دفن تُجسد مدى تغلغل الخرافة في الوعي الأوروبي آنذاك، حيث كان يُنظر إلى القيد الحديدي لا كوسيلة ردع، بل كتعويذة أخيرة لحبس روح مشبوهة.
وهكذا، تداخلت الأساطير والمخاوف الجماعية لتخلق مشاهد كانت الأقفاص فيها رمزًا للهوس الجمعي لا للمنطق. وبينما اختفى الهدف الحقيقي لتلك الأقفاص في الذاكرة الجمعية، نبتت مكانه روايات الزومبي ومصاصي الدماء، وصار الحديد رمزًا لقمع الشرور الخارقة... لا لحماية الموتى من أيد طبية لا تعرف الرحمة.
مفارقة تاريخية
ربما المثير في قصة الأقفاص تلك هو المفارقة التي تحملها: إذ ظن البعض أن القفص يحمي الأحياء من الميت، بينما الحقيقة أن القفص وُضع لحماية الميت من الأحياء. مفارقة تلخص بمرارة كيف يمكن للعلم إذا انفصل عن الأخلاق، أن يخلق مآسي أكثر رعباً من أي خرافة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .