12 يوليو 2025

الحن والبن : بين الأسطورة والعلم

إعداد :  كمال غزال

في أعماق غابات الأمازون الكثيفة، وبين القبائل التي لم تندثر معتقداتها منذ آلاف السنين، توجد طقوس تُثير الذهول والرعب على حد سواء، طقوس تكشف كيف يمكن لجسد الإنسان بعد الموت أن يصبح وعاء لقوة روحية خطيرة، وأن يستخدم حرفياً  كأداة للسيطرة والتحكم. 

في أروقة المرويات الإسلامية القديمة، كثيراً ما يتردّد ذكر أقوام غامضين يُقال إنهم عمروا الأرض قبل خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام. ومن أبرز ما يُتداول في هذا السياق، قصة «الحن» و«البن» نوعان من المخلوقات أو جنسان يلفهما الغموض، تُنسب إليهما أعمال الفساد في الأرض قبل أن يُرسل الله الجنّ لإبادتهما، تمهيداً لخلق آدم وإسكانه الأرض.

فهل لهذه القصة جذور حقيقية ؟

وهل عرف كوكب الأرض أجناساً عاقلة أو شبيهة بالبشر قبل التاريخ المُسجّل؟ وهل ينسف العلم تلك الرواية، أم يمكن أن نرى فيها أثراً لذكريات بشرية ضائعة تعود إلى عصور سحيقة ؟

الحن والبن في الموروث الإسلامي

ورد ذكر الحن والبن في كتب التفسير والقصص، لا في القرآن الكريم ولا في أحاديث نبوية صحيحة، بل عبر روايات منسوبة إلى الصحابة أو التابعين، كقولهم: " كان الحن والبن في الأرض، فبعث الله إليهم الجنّ فقتلوهم، وسكنوها بعدهم."

وقد نقل مثل هذه الأقوال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام السدي في تفسيره، وأشار إليها الثعلبي وغيرهم ، وتقول بعض الروايات إن الجنّ أنفسهم عُوقبوا لاحقاً عندما أفسدوا، فجاءت الملائكة وأجلتهم، ثم خُلق آدم بعد ذلك.

وهكذا يظهر من هذه المرويات أن الأرض شهدت صراعاً طويلاً بين أجناس خُلقت قبل الإنسان، وهلكت بسبب ظلمها وفسادها ، لكن من المعلوم أن هذه الأخبار لا تستند إلى نصوص شرعية قطعية، بل هي أقرب إلى الإسرائيليات أو اجتهادات المفسرين، ولا يمكن الجزم بصحتها أو تفسيرها على أنها وقائع تاريخية ، مع ذلك، لا يمكن إنكار وجود ميل فطري عند الإنسان إلى التساؤل عن "ما قبلنا؟ "، خاصة إذا ما قابل هذا التساؤل ما كشفه العلم في العصور الحديثة.

ما الذي كشفه العلم عن ما قبل الإنسان ؟

ما لا يختلف عليه العلماء اليوم هو أن الأرض، كما نعرفها، شهدت تاريخاً طويلاً من الحياة قبل أن يُخلق الإنسان العاقل الذي يعرف باسم هومو سيبيان Homo sapiens المعروف في الديانات السماوية بأبينا آدم.

وقد وجدت الحفريات والمسوحات الأثرية آلاف الأدلة على وجود أجناس شبيهة بالبشر، لها أدواتها البدائية، ومساكنها، وطقوسها، عاشت لعشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من السنين، ثم اختفت. ومن أشهر هذه الأجناس:

النياندرتال Neanderthal

كائن شبيه بالبشر عاش في أوروبا وآسيا قبل ما بين 300,000 و40,000 سنة ، امتلك قدرات بدائية مثل إشعال النار، وصناعة الأدوات الحجرية، وحتى طقوس الدفن ، وقد اكتُشفت جماجم وأدوات تعود إليه في فرنسا، وألمانيا، وبلدان الشرق الأوسط، مثل العراق (كهف شانيدر).

دينيسوفان Denisovan

كائن آخر شبيه بالبشر، عُرف فقط من خلال حمضه النووي وبقايا عظام قليلة عُثر عليها في سيبيريا وتبت.
عاش في الفترة الزمنية نفسها تقريباً مع النياندرتال، ويُعتقد أنه تزاوج مع بعض أسلاف سكان آسيا وجزر المحيط الهادئ، وهو ما يؤكده تحليل الحمض النووي لسكان بابوا وأستراليا.

الإنسان المنتصب Homo erectus

يُعد من أقدم الكائنات الشبيهة بالإنسان والتي عاشت منذ حوالي مليون ونصف المليون سنة.
امتلك بنية جسمانية مشابهة جداً للإنسان الحديث، وكان أول من خرج من إفريقيا ليستوطن آسيا وأوروبا.
وقد وُجدت آثاره في إندونيسيا، الصين، جورجيا، وشمال إفريقيا.

لوسي Australopithecus Afarensis

هيكل عظمي أُنثوي عُثر عليه في إثيوبيا، عمره نحو 3.2 مليون سنة ، كان هذا الكائن يمشي على قدمين، لكنه امتلك دماغاً صغيراً، ما جعله وسيطاً بين القردة العليا والإنسان ، وإن كان لا يُصنّف إنساناً بأي حال، إلا أن صفاته تقرّبه من طريق طويل سلكته الكائنات في التأقلم مع ظروف الأرض.

آثار أقدام وأدوات قديمة

تم العثور في كينيا وتنزانيا وأثيوبيا على آثار أقدام متحجرة عمرها أكثر من 3.6 مليون سنة ، وفي المغرب تم العثور في موقع "جبل إيغود" على أقدم جمجمة لإنسان عاقل تعود لحوالي 300,000 سنة، لكنها لا تمثل آدم عليه السلام، بل نماذج بشرية متفرقة عاشت قبل بدء التاريخ المدون.

هل تعارض هذه الاكتشافات قصة آدم عليه السلام ؟

الإيمان بأن آدم هو أول إنسان من نسله سائر البشر، لا يتعارض مع ما اكتشفه العلم عن وجود مخلوقات شبيهة بالإنسان عاشت قبله ، فالعقيدة الإسلامية والكتب السماوية عموماً  تُقر بأن آدم خُلق بمعجزة إلهية، وأن نسله هو من عمّر الأرض روحاً ووعياً وشرعاً.

أما الأجناس الأخرى  التي عاش بعضها قبل أكثر من مئة ألف سنة فلم تكن من نسله، ولم تكن مكلفة بالعبادة أو العقل كما نعرفه ، وبحسب التوراة، فإن خلق آدم يعود إلى حوالي 10 إلى 15 ألف سنة فقط، وهي فترة قريبة نسبياً، مقارنة بأجناس ما قبل التاريخ التي سبقتها بمئات الآلاف من السنين.

من هنا نفهم أمرين أساسيين:
- أن العلم لم يقل إن الإنسان خُلق من تلك الكائنات، بل أثبت أنها كانت موجودة قبله، دون الجزم بعلاقة سببية مباشرة.

- وأن آدم هو أول إنسان مكلّف بالرسالة وعمارة الأرض، لكنه ليس أول من وطئ الأرض على قدميه.

هل  "الحن والبن" وصف غامض لتلك الكائنات القديمة ؟

إذا نظرنا في روايات الحن والبن، نجد أنها تصف أقواماً بدائية أفسدت وسفكت الدماء قبل الإنسان، ولم تُذكر صفاتهم بشكل دقيق.
لكن هذه الأوصاف قد تتقاطع، بشكل مجازي أو رمزي، مع ما كشفه العلم من أنماط حياة النياندرتال ودينيسوفان وغيرهم، من حيث القتال، الصيد، البدائية، والاختفاء المفاجئ.

وهنا لا نقول إن الحن والبن هم النياندرتال مثلاً، بل نُقر بأن الوعي الشعبي والديني القديم ربما التقط صدىً باهتاً لتاريخ طويل وعميق لم نكن شهوده، فاختزله في صورة رمزية مثل "الحن والبن".

وفي الختام ، ليست الأرض التي نسكنها اليوم وليدة عصر آدم وحده، بل سجلها الجيولوجي والأثري يكشف أنها استقبلت أجناساً عديدة، شبيهة بالإنسان، قبل آلاف ومئات الآلاف من السنين ، هذه الكائنات تركت وراءها أدوات حجرية، جماجم، هياكل عظمية ، وآثاراً شاهدة على وجودها، لكنها لم تكن "بشراً مكلفين" بالمعنى الشرعي المعروف.

يبقى آدم عليه السلام يبقى - من المنظور الديني – أول إنسان مكلّف بعمارة الأرض، وربما كان آخر فصل في سلسلة طويلة من محاولات "الحياة العاقلة" التي مرت بها الأرض عبر دهورها ، أما الحن والبن، فيبقون من أساطير التراث الشعبي، تحاول تفسير ذلك الغموض البعيد، وتعبّر عن ولع الإنسان بمعرفة ما لم يُشهد.

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ