28 يونيو 2025

جولة ماورائية في جورجيا

إعداد : كمال غزال
في قلب منطقة القوقاز، حيث الجبال الشاهقة والوديان الموحشة والمناخ المتقلب، تقف جورجيا كأرض ساحرة مشبعة بالمجهول والأسطورة والروحانية. ورغم أنها تُعرف بجمالها الطبيعي وتاريخها العريق، إلا أن هناك بُعداً خفياً من هذا البلد لا يظهر في خرائط السياحة بل ينبض في الأساطير المحلية، وفي طقوس القرويين، وفي الصمت الذي يلفّ أديرة الجبال.

نبذة عن جورجيا
تقع جورجيا في قلب جبال القوقاز، بين البحر الأسود غربًا وبحر قزوين شرقاً، وتُعدّ جسراً بين آسيا وأوروبا، مما جعلها ملتقى ثقافات وأساطير وحضارات متداخلة.

ورغم شهرتها العالمية باسم "جورجيا" Georgia، فإن سكانها لا يستخدمون هذا الاسم، بل يسمّون بلادهم "ساكارتفيلو" Sakartvelo، وهو الاسم الجورجي الأصلي.

أما "جورجيا"، فهناك من يُرجع أصلها إلى القديس جورج (القديس جرجس)، الذي يحظى بتقديس واسع في البلاد، فيما يرى آخرون أن التسمية جاءت من الكلمة الفارسية "غُرج" (Gurj) التي تعني "الذئب"، إشارة إلى البأس والقوة ، تحت هذه الجغرافيا الجبلية القاسية، تتوارى أرواح الأساطير القديمة، في انتظار من يعيد إحياءها...

كوشي : الوحش ذو الرؤوس المتعددة
في الحكايات الشعبية الجورجية، يظهر "كوشي" كـكائن مظلم وشرير، له رؤوس متعددة وأحياناً أجنحة، ويُعدّ من أبرز الأعداء في القصص البطولية ، يعيش كوشي في أعالي الجبال أو الكهوف العميقة، ويُقال إنه يخطف النساء، ويحبسهن خلف أبواب من نار.

الأسطورة تجسد الصراع بين النور والظلمة، وبين الشجاعة والخوف. ويعتقد بعض القرويين أن رؤية كائن يشبه التنين في السماء، خصوصًا وقت العواصف، هو علامة على عودة كوشي.

أورباني : روح الموت
في بعض المناطق الجبلية مثل "سفانيتي"، يؤمن السكان بروح تُدعى أورباني، وهي تجسيد للموت ، يُقال إن أورباني تظهر على هيئة امرأة نحيلة ترتدي الأبيض أو الأسود، وتدخل القرى عند اقتراب موت أحد السكان،  ويُقال إن النظر إليها مباشرة يجلب المرض.

وتُسمع خطواتها الخفيفة على الحصى قبل الوفاة بأيام ، وفي الطقوس الريفية، يتم ترك الطعام عند مداخل المنازل في الأيام الماطرة لتجنب "إغضابها"، بينما يُحرَق البخور على عتبات البيوت للحماية.

طائر سيمورغ القوقازي : كائن الحكمة والتحول
تشير بعض الأساطير القوقازية إلى طائر عملاق يسمى سيمورغ، يشبه النسر ولكنه مشبع بالألوان ، يُقال إن رؤية هذا الطائر في الحلم تجلب المعرفة، وأن من يلمس ريشه يُفتح له باب إلى "عالم آخر" ، في أساطير سفانيتي القديمة، يربطون سيمورغ بشجرة الحياة، ويُقال إن الراقصين في طقوسهم يحاولون تقليد حركته لجذب بركته.

كهوف فاردزيا : مدينة محفورة في الجبل
في جنوب جورجيا، تمتد مدينة فاردزيا داخل الجبل كأنها متاهة من الأسرار.

أنشئت في القرن الثاني عشر، وتضم أديرة وكنائس ومخازن، لكنها أصبحت بعد قرون محجًّا لمن يؤمنون أن الجبل يخفي أسرارًا روحية ، يُقال إن الرهبان القدامى الذين عاشوا في الكهوف اكتسبوا قدرات استبصار، وكانوا يتواصلون مع الأرواح عبر الصوم والعزلة ، وقد رُويت قصص عن زوار أصيبوا بحالات "غريبة" بعد قضاء الليل في الكهوف من رؤى ضبابية، إلى إحساس ثقيل يضغط على الصدر.

وادي تريوسي :  الوادي الذي تصرخ فيه الأرواح
في مناطق مرتفعة قرب كازبيجي، يقع وادٍ ناءٍ يُعرف محليًا بـ"تريوسي"، ويُقال إنه يسجّل أصوات الموتى ، الصراخ يُسمع في الليالي الهادئة، ويُقال إنه بكاء من لم يُدفنوا بسلام ، البعض يزعم أنه إذا تحدثت بصوت مرتفع هناك، فإن الجواب يأتيك بصدى غريب، لا يشبه صدى الصوت الطبيعي ، السكان يتجنبون دخول الوادي بعد الغروب، ويُتركون قرابين صغيرة عند الصخور فواكه، شموع، وحتى أقمشة للأطفال.

الطقوس الوثنية القديمة و"الأرثوذكسية الساحرة"
رغم أن جورجيا من أوائل الدول التي اعتنقت المسيحية (في القرن الرابع الميلادي)، إلا أن الموروث الوثني ما زال حيًا في القرى:

في بعض الأرياف، تُقام طقوس تطهير بالنار مع بداية الربيع لطرد الأرواح الشريرة ، في الأعراس، يوضع السيف تحت الوسادة لطرد الأرواح الغيورة من العروسين ، بعض المعابد الأرثوذكسية تُزرع حولها أشجار مقدسة، يُعتقد أنها تسكنها الأرواح الطيبة، ويُعلّق الناس عليها أقمشة ملونة كأمنيات ، هذا المزج العجيب بين المسيحية والوثنية هو ما يُعطي جورجيا طابعاً روحياً خاصاً وفريداً.

دير دافيد غاريجا :  الطريق إلى البُعد الآخر
يقع هذا الدير التاريخي قرب الحدود الأذربيجانية، ويمتد على سفوح تلالٍ قاحلة لكن الغموض الحقيقي ليس في هندسته، بل في الأساطير التي تدور حوله،  إذ يُقال إن الرهبان الأوائل فيه حفروا بوابة تؤدي إلى بعد غير مرئي، يظهر فقط أثناء اكتمال القمر ، هناك من يقول إن المكان لا يخطئ في عقاب من يدخله بسوء نية حيث تعرض بعض الزوار لحالات هلوسة أو ضياع بلا تفسير.

الكهنة المتجولون و"أطباء الروح"
في جبال توشيتي وميستيا، لا تزال هناك بقايا لما يُعرف بـ "سحر الحكمة الجبلي"، حيث يتجول رجال يُعتقد أنهم ورثة تقاليد روحية قديمة يُقال إنهم: يقرؤون "الظل" خلف الإنسان ، يكتبون تعاويذ على صخور باستخدام دم الديوك ، يطلبون من الأرواح نصائح للزراعة، أو التحذير من الأوبئة ، هؤلاء لا يعترفون بأنهم سحرة بل "وسطاء بين العالمين".


كهف بروميثيوس : موطن العذاب الأبدي ؟
في منطقة تسخالتوبو Tskaltubo غرب جورجيا، يقع كهف مهيب يُعرف اليوم بـ كهف بروميثيوس، وهو من أطول الكهوف في أوروبا، وتغمره تكوينات صخرية مدهشة وأنهار جوفية صامتة.

لكن خلف هذا الجمال الطبيعي، تختبئ أسطورة كونية مظلمة...

يُعتقد أن هذا الكهف هو الموقع الذي قُيّد فيه بروميثيوس، الإله الذي سرق النار من الآلهة ومنحها للبشر، فعاقبه زيوس بأن يُقيّد إلى صخرة في جبال القوقاز، ليأكل نسرٌ كبده كل يوم، ويُشفى ليبدأ العذاب من جديد.

رغم أن الإغريق لم يحددوا الموقع بدقة، فإن سكان جورجيا يروون أن الجبال المحيطة بالكهف وهدير الرياح في داخله دليل على صرخات بروميثيوس الأبدية.

ويُقال في بعض الروايات المحلية، أن الكهف يُفتح في منتصف الليل على بوابات زمنية أو "شقوق بين العوالم"، وأن من يسير في ممراته وحده يشعر بأن الزمن يتباطأ، أو أن "أنفاس أحدهم تلاحقه دون أن يراه".

هذا الكهف يجسد الحب المقدّس للبشرية، وثمن المعرفة، والعقاب الإلهي وكلها عناصر جوهرية في الأساطير الماورائية.


جورجيا... حيث الماوراء يحيا بيننا
ليست جورجيا مجرد دولة في قلب القوقاز، إنها مسرح مفتوح للأساطير التي لم تمت، وللأرواح التي لم ترحل ، من الجنيات التي تختار من تباركه، إلى الكهوف التي تهمس في الظلام، ومن الكهنة الجبليين إلى الأرواح التي تمرّ مع الرياح ، هذه الأرض تحترم الغيب، وتصغي لصوت الحجر والشجر، وتؤمن أن العالم ليس فقط ما نراه، بل أيضاً ما نشعر به حين تُغلق الأعين.


إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ