![]() |
إعداد : كمال غزال |
في أعماق جبال شمال الفلبين، وتحديداً في بلدة كابايان، تم اكتشاف واحدة من أغرب وأندر تقاليد التحنيط في العالم.
تعود هذه المومياوات، المعروفة باسم مومياوات كابايان، إلى الفترة ما بين عامي 1200 و1500 ميلادية، وقد تم العثور عليها لأول مرة في أوائل القرن العشرين داخل كهوف طبيعية محفورة في الجبال.
لكن ما يميّز هذه المومياوات ليس فقط قدمها أو مكان دفنها، بل طريقة التحنيط الفريدة التي تبدأ قبل موت الشخص نفسه.
إذ كان يُجبر المحتضر على شرب محلول شديد الملوحة قبل وفاته بوقت قصير، مما يساهم في تجفيف جسده من الداخل. وبعد الوفاة مباشرة، يُوضع الجسد في وضعية الجنين ويتم تدخينه فوق نار هادئة لساعات طويلة، مما يؤدي إلى تجفيف سوائل الجسم والأعضاء الداخلية بالكامل، دون الحاجة إلى إزالة الأعضاء كما كان الحال في التحنيط المصري.
عقب عملية التدخين، كانت المومياوات تُحفظ داخل توابيت خشبية منحوتة من جذوع الأشجار، وتوضع في كهوف طبيعية وسط الجبال. وكان يُعتقد أن هذه الطريقة في التحنيط تحافظ على أرواح الأجداد وتجعلها قادرة على حماية القرية وجلب الرخاء لسكانها.
ومع مرور الزمن، تحوّلت هذه المومياوات إلى رموز مقدسة لدى المجتمع المحلي، وبدأت بعض الأساطير تُنسج حول قواها الروحية. إلا أن هذا التقديس جلب معه أيضاً لعنة الجشع، إذ تعرّض العديد من المومياوات للسرقة عبر القرون، بعد أن شاع الاعتقاد بأنها تجلب الحظ والثروة، مما عرّض موقع كابايان التاريخي لخطر حقيقي من النهب والاندثار.
تسعى السلطات اليوم إلى حماية هذه الكنوز البشرية وإعادتها إلى أماكنها الأصلية، ليس فقط لكونها تراثاً ثقافياً نادراً، بل لأنها شاهدة على طقس جنائزي لا مثيل له، يعكس مزيجاً من الإيمان والطقوس الروحية التي تربط بين الأحياء والأموات في نسيج الحياة اليومية لشعوب الجبال الفلبينية.
مومياوات كابايان ليست مجرد جثث محفوظة، بل هي رسائل صامتة من ماضٍ بعيد، تخبرنا كيف كان الموت بداية لحماية الحياة.
قصص وأساطير مدهشة من قلب الجبال
لم يكن يُمنح شرف التحنيط بهذه الطريقة الفريدة لأي شخص، بل اقتصر الأمر على المحاربين، الكهنة، والزعماء الروحيين ممن اعتُقد أن أرواحهم ستواصل حماية المجتمع. كان يتم إعدادهم قبل الموت بفترة، من خلال الصيام والتطهير وشرب محاليل ملحية مجففة، ثم عزلهم في غرفة مظلمة لتجهيزهم للطقس.
لعنة المومياء المسروقة
من أكثر القصص رعباً في كابايان ما يُعرف بلعنة المومياوات. إذ يُقال إن كل من سرق مومياء أو عبث بموقعها، أصيب بسلسلة من المصائب أو الوفاة الغامضة. في إحدى الحالات المعروفة في الثمانينات، أعاد أقارب أحد اللصوص مومياء إلى كهفها بعد وفاته المفاجئة، مؤمنين أن اللعنة ستزول بإعادتها.
مومياء تتحدث في المنام
رُويت حكاية عن أحد الحراس المحليين الذي بات بجوار الكهف لحراسته، فرأى في المنام مومياء تحذره من لصوص قادمين. وفي صباح اليوم التالي، حدثت محاولة اقتحام فعلية للكهف وتم التصدي لها في اللحظات الأخيرة.
كهوف المومياوات بوابات بين العوالم
بالنسبة للعديد من السكان الأصليين، تعتبر كهوف المومياوات أماكن عبور بين العالمين. يُعتقد أن الأجداد لا يزالون على اتصال بالأحياء، يظهرون في الأحلام، أو يُرسلون إشارات عندما يكون المجتمع في خطر.
طقوس زيارات الأرواح
حتى اليوم، لا تزال بعض القبائل في كورديليرا تنظّم زيارات سنوية إلى كهوف المومياوات. يُقدَّم خلالها التبغ، الطعام، والصلوات، كعربون شكر وتقدير لتلك الأرواح التي تواصل حمايتهم من العالم الآخر.
حين يكون الموت بداية للحياة
تختزل مومياوات كابايان قصة شعب لم يرَ في الموت نهاية، بل استمراراً لدور الأجداد في حياة مجتمعهم. بين النار، والملح، والكهوف، وُلد طقس روحي فريد قلّ نظيره في التاريخ البشري. وما زالت كابايان حتى اليوم، رغم ما مرّت به من نهب وغموض، تحرس سرّها في صمت الجبال، منتظرة من يصغي إلى رسائلها القديمة.
إقرأ أيضاً ...
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .