19 مايو 2025

Textual description of firstImageUrl

أزمور… موطن عيشة قنديشة سيدة الظلال

إعداد :  كمال غزال

في عمق سواحل المغرب الأطلسية، وعلى ضفاف نهر أم الربيع، تقف مدينة أزمور مثل لغز قديم… مدينة تعرفك حين تخطو بين أزقتها، لكنها ترفض أن تبوح بكل أسرارها. 

ليست مجرد مدينة عتيقة بُنيت على يد البرتغاليين في القرن السادس عشر، ولا فقط مزاراً روحانياً للزهاد والمتصوفة… بل هي أرض تهمس أساطيرها في أذن كل عابر، وتعيد سرد الحكايات التي تأبى الموت.

في أزمور، لا يفصل بين الواقع والماوراء إلا عتبة باب قديم… أو ربما زقاق مظلم تسكنه عائشة قنديشة.

عائشة قنديشة: المرأة التي خذلت الموت
قليلة هي الشخصيات في الميثولوجيا المغربية التي حيّرت العقول مثل عائشة قنديشة. نصف أسطورة، نصف حقيقة، امرأة تحولت إلى كابوس جماعي. 

هي ليست "جنية" بالمعنى البسيط للكلمة، بل كيان يتجاوز التصنيفات: جميلة بشكل يُخيف، قدماها حافيتان أو على شكل حوافر ماعز، تتربص بالرجال في الطرقات الخالية، عند حواف المياه أو بقايا الأطلال.

يُقال إنها كانت امرأةً من نبلاء الأندلس، شُرّدت مع قومها بعد سقوط غرناطة، فاستوطنت ضفاف أزمور. هناك، وقفت ضد البرتغاليين بأسلوب لم يعهده المحاربون: لم تحمِل سيفاً، بل حملت أنوثتها كسلاح. أغوت الغزاة، أسرتهم بعيونها السوداء العميقة، ثم قادتهم إلى مصيرهم المحتوم… حيث الموت ينتظرهم على أعتاب الأهوار.

لكن في خيال العامة، تحوّلت المقاومة إلى لعنة. ومع الزمن، صارت عائشة قنديشة قرينة الجن، تُصيب العابرين بالجنون، تُغويهم فتأسر أرواحهم، وربما تقتلهم… أو ما هو أسوأ: تتركهم أحياء في أجساد خاوية.

شهادات من مدينة لا تنام
حتى اليوم، ما زال سكان أزمور يتهامسون عن " العروسة اللي تجرّ فَرّاشة في الليل "، و "الفرّاشة" في العامية المغربية تعني مجازاً الثوب الطويل الفضفاض الذي يُجرّ على الأرض، خاصةً إن كان لونه أبيض وواسعاً، تماماً مثل ما ترتديه العروس أو المرأة الروحانية في المخيلة الشعبية ، وهناك من يقسم أنه رأى امرأة بيضاء تخرج من بين أعمدة "القصبة البرتغالية"، تظهر للحظات، ثم تذوب كأنها ضباب، و"القصبة" هي القلعة القديمة التي بناها البرتغاليون في أزمور في القرن السادس عشر. استخدام هذا المكان في المشهد يعطي إيحاءً تاريخياً وروحياً، كونه مكاناً شهد معارك ودماء واحتلالاً، أي موقعاً محتملاً لاحتباس الطاقات أو الأرواح حسب المعتقدات الشعبية.

آخرون يتحدثون عن همسات ناعمة تنادي الرجال بأسمائهم في ساعة متأخرة من الليل، لكنها لا تصدر عن أي جسد مرئي. وهناك من يدّعي أن كل من استجاب لذلك النداء أصابه نحس لا شفاء منه: موت مفاجئ، فقدان للعقل، أو اختفاء في ظروف غامضة.

حتى الزوار الأجانب لم يسلموا من هذه الظواهر: سائح فرنسي روى في إحدى المدونات أنه حين اقترب من بقايا البرج القديم، شعر ببرودة غير طبيعية وسمع وقع أقدام خلفه، رغم خلو المكان. لكنه حين التفت، وجد ظلاً يشبه امرأة واقفة عند حافة الجدار… يراقبه بصمت.

لماذا أزمور ؟ ولماذا هذه الأسطورة تحديداً ؟
ليست مصادفة أن تتجذر أسطورة عائشة قنديشة في أزمور. فالمكان نفسه يشكل مزيجاً من العناصر التي تغذي الخيال الشعبي: ضفاف النهر حيث المياه رمز العبور بين العوالم ، والأطلال البرتغالية من بقايا استعمار ودماء وذكريات مريرة ، والتصوف والزوايا حيث يلتقي العالم المادي بالروحي.

في علم الرموز، المرأة الجميلة ذات القدم الحيوانية تمثل " الفتنة الخفية "، مزيجاً من الإغواء والخطر. وفي مخيلة الشعوب التي عرفت الاحتلال، تتحول هذه الصورة إلى تجسيد للثأر. غير أن عائشة قنديشة في المغرب لم تعد مجرد رمز، بل أصبحت حقيقة موازية: كياناً يستحيل نفيه أو إثباته، لكنه حاضر في اللاوعي الجمعي.

حتى علماء الأنثروبولوجيا، مثل بول باسكون، يعتبرون قنديشة إسقاطاً لمخاوف اجتماعية من المرأة القوية المستقلة، بينما يرى آخرون فيها بقايا أسطورة فينيقية لإلهة الحب والحرب (عشتار أو عناة)، أعادت الثقافات المحلية تشكيلها في ثوب الجن والشياطين.

بين الخرافة واليقين: هل هناك تفسير ؟
علم النفس يقدّم تفسيراً أبسط: هلوسات سمعية وبصرية ناجمة عن عوامل طبيعية (رطوبة، ظلال، خوف دفين). فيما يرى الباحثون في الفولكلور أن القصة تخدم وظيفة اجتماعية: تخويف الشبان من التسكع ليلاً، وتأكيد السيطرة الذكورية على صورة المرأة.

لكن، هل تفسر كل ما ذكر آنفاً ؟ لماذا لا تزال قصص عائشة قنديشة تُروى بنفس الحماس حتى اليوم ؟
هل تفسر لماذا يخفض الناس أصواتهم حين تُذكر قنديشة ؟
هل يستطيع العلم أن يقنع رجلاً شاهدها فعلاً وخرج من التجربة بذاكرة مشوشة ؟

في أزمور، الإجابة بسيطة: "ماشي ضروري تشوفها بعينيك باش تصدقها… مرات كتكتفي غير بالهمس."، بمعناه : " ليس من الضروري أن تراها بعينيك كي تصدق بوجودها... أحياناً يكفي فقط أن تسمع الهمس".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ