![]() |
| إعداد : كمال غزال |
كائن يختبئ في زوايا المقابر القديمة والكنائس الحجرية، يعبث بالمارة، يغيّر الوقت في ساعة الكنيسة، يهمس في آذان الزوار، ويخفي مقتنياتهم ليعيدها بعد حين. إنه الـ هوبغوبلين Hobgoblin أي العفريت المشاغب الذي عاش في ظلال الخرافة لقرون طويلة.
أصل الاسم والرمز اللغوي
تعود كلمة هوبغوبلين Hobgoblin إلى الإنجليزية الوسطى، وهي مركبة من كلمتين:
هوب Hob وهو اسمٌ شعبي مشتق من روبن “Robin” أو روبرت “Robert”، وغالباً ما يُستخدم للإشارة إلى روحٍ منزلية ودودة ، أما غوبلين Goblin تعني "عفريت" أو "روح شريرة" في اللغات الجرمانية القديمة.
وعليه، فإن هوبغوبلين "Hobgoblin" يجمع بين النقيضين: الوداعة والمكر، في وصف كائنٍ يقف بين عوالم الخير والشر، تماماً كما يقف الإنسان بين الإيمان والريبة. في الفلكلور الجرماني، يُعتبر هذا الكائن قريباً من الكوبولد الألماني والبراوني الأسكتلندي، وهي أرواح خفيفة الظل كانت تُعد خادمة للبيوت، لكنها قد تنقلب مؤذية إن تم تجاهلها أو إهانتها.
الهوبغوبلين في الفولكلور الإنجليزي
في الريف الإنجليزي، كان الناس يعتقدون أنه كائن يعيش في أقبية المنازل أو بالقرب من المواقد. يساعد رب البيت في الحصاد، ويجلب الحظ للماشية، شرط أن يُقدم له طبق من الحليب أو الكعك كقربان رمزي.
لكن، إن نُسي أو جرى السخرية منه، يتحوّل إلى كائنٍ غاضب يبعثر الأدوات، ويُصدر أصواتاً ليلية، ويعقِد شعر الأحصنة، ويرمي الرماد على الأرض وهي الأفعال التي فسرها القدماء على أنها علامات غضب الأرواح.
وفي العصور الوسطى، كان رجال الدين يرون فيه صورة شيطانية مموهة، لأن وجود كائنٍ "بين الخير والشر" يتعارض مع الرؤية الدينية الثنائية للعالم. ومن هنا، بدأ تدريجياً يُنظر إليه كروحٍ ملعونة تسكن المقابر والكنائس، وتستهزئ بالمؤمنين.
أسطورة المقبرة القديمة
في قرية معزولة في شمال إنجلترا، تناقل السكان حكاية تقول إن عفريتاً يسكن المقبرة القديمة بجانب الكنيسة الحجرية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر ، يُقال إنه يُغيّر الوقت في الساعة الكبيرة على برج الكنيسة ليلاً، فيُربك أهل القرية الذين يعتمدون عليها في تحديد مواعيد الصلوات.
وإنه يحب أن يخفي أشياء الناس حين يزورون قبور أحبائهم - المفاتيح، النقود، أو خواتم الزواج لتظهر فجأة في أماكن غير متوقعة بعد أيام.
وفي بعض الليالي، تُسمع همسات باردة قريبة من الأذن، أو نَفَسٌ حار على العنق، وكأن أحداً يقف خلفك… بينما لا ترى شيئاً سوى ظلال الشواهد الصامتة.
ويزعم بعض الشهود أنهم شعروا بأصابع غير مرئية تدفعهم أو تربت على أكتافهم بلطف ساخر، فيما يسمع آخرون ضحكات مكتومة تتردد بين القبور كأنها نابعة من باطن الأرض.
حضور الهوبغوبلين في الأدب
وجد هذا الكائن طريقه إلى الأدب الإنجليزي منذ وقتٍ مبكر. فقد استخدمه ويليام شكسبير في مسرحيته الشهيرة A Midsummer Night’s Dream ليجسّد شخصية بوك Puck العفريت اللعوب الذي يتدخل في شؤون البشر بخفة وسحر.
وفي القصص اللاحقة، خاصة في الأدب الفيكتوري، تحول هذا العفريت Hobgoblin إلى رمزٍ للأماكن المسكونة والغرابة الريفية، قبل أن يظهر في القصص الخيالية الحديثة كشخصيةٍ تمزج بين الطرافة والرهبة.
البعد النفسي والرمزي
من الناحية الرمزية، يجسّد الـهوبغوبلين الجانب الخفي من الوعي البشري - تلك الطاقة الغامضة التي تلهو بالإنسان وتختبر اتزانه بين النظام والفوضى.
هو صورةٌ من صور "اللاوعي الجمعي" الذي تحدث عنه كارل يونغ، حيث تتخذ القوى النفسية شكل كائنات أسطورية تعبر عن الخوف من المجهول أو عن الذنب الدفين.
أما المقبرة التي يُقال إنه يسكنها، فهي رمز للحد الفاصل بين الحياة والموت، بين المادة والروح. لذلك يبدو من الطبيعي أن يظهر الـ Hobgoblin في هذا المكان بالذات، ككائنٍ يعبر عن قلق الإنسان الوجودي أمام الموت وصمته الأبدي.
بين الحقيقة والخرافة
رغم أن العلم لم يجد دليلاً على وجود مثل هذه الكائنات، إلا أن الحكايات عنها لم تختفِ. فهي تمثل ذاكرة الخوف القديمة التي لا تزال ترافق الإنسان حتى في عصر التكنولوجيا.
فكل صوت غير مبرر في مقبرة مهجورة، وكل ظلٍ يتحرك على جدار كنيسة عتيقة، يعيد إلى الأذهان فكرة أن الأرواح لا تزال تسكن بيننا، متخفية في هيئة عفريت مشاغب يضحك في الظلام.
وفي الختام يبقى هذا العفريت أحد أكثر رموز الفولكلور الأوروبي غموضاً وسحراً، مزيجاً من الطيبة والمكر، من الخوف والفضول ، وربما لا يهم إن كان وجوده حقيقياً أم مجازياً، بقدر ما يهم أنه يذكرنا بأن الخيال الشعبي هو مرآة الروح الإنسانية، تعكس ما نخشاه ونشتهيه في آنٍ واحد ، إنه الكائن الذي يعيش على حافة العالمين، في مقبرة يغشاها الضباب، ينتظر من يمر ليلعب معه لعبته الأبدية… لعبة الخداع والمجهول.
نبذة عن كمال غزال



0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .