4 سبتمبر 2025

الجزيء الروحي DMT : رحلة بين الكيمياء والعوالم الموازية

حالة وعي استثنائية -  عوالم موازية DMT
إعداد :  كمال غزال

منذ فجر التاريخ، حاول الإنسان استكشاف حدود وعيه، سواء عبر التأمل أو الطقوس الدينية ، أو حتى المواد الطبيعية ومن بين هذه المواد يبرز مركب ديمثيلتريبتامين والذي يُعرف اختصاراً بـ دي إم تي   DMT الذي أثار جدلاً هائلاً في المجتمع العلمي والثقافي، لأنه يمنح من يتناوله تجربة قصيرة لكنها شديدة العمق، غالباً ما يُشبّهها أصحابها بـ"الانتقال إلى عوالم أخرى".


أشهر من بحث في هذا المركب هو الطبيب النفسي الأمريكي ريك ستراسمان الذي أطلق عليه لقب "الجزيء الروحي"  The Spirit Molecule لكونه يفتح باباً على ما يشبه التجربة الصوفية أو تجربة الموت الوشيك.

ما هو الجزئي الروحي DMT ؟

هو مركب طبيعي من عائلة التريبتامين، وهو قريب كيميائياً من السيروتونين والميلاتونين ، يتواجد في نباتات عدة، كما وُجدت كميات صغيرة منه في أدمغة بعض الحيوانات، وربما في الإنسان أيضاً، خصوصاً في الغدة الصنوبرية، وإن كان هذا لم يُحسم بعد ، عند استنشاقه أو حقنه وريدياً، يبدأ تأثيره خلال ثوانٍ ويبلغ الذروة في دقيقتين، ثم يتلاشى في غضون 10–15 دقيقة فقط.

يعمل على مستقبلات في الدماغ تُدعى 5-HT2A مما يؤدي إلى تغييرات حادة في النشاط الكهربائي، وانخفاض في موجات ألفا وبيتا، وزيادة في ما يُسمى تنوع الإشارة العصبية، وهي حالة مشابهة للحلم أو التجارب الصوفية ، غالباً ما يكون التأثير الذاتي أقوى وأشد غموضاً من باقي المهلوسات مثل LSD أو السيلوسايبن.


أبحاث ريك ستراسمان

في الفترة بين 1990 و1995 أطلق ريك ستراسمان مشروعاً في جامعة نيو مكسيكو، وكان أول بحث رسمي في الولايات المتحدة على مادة مهلوسة منذ أكثر من عقدين ، شملت الدراسة حوالي 60 متطوعاً وقرابة 400 جرعة من DMT تم إعطاؤها عن طريق الحقن الوريدي بجرعات متزايدة.

كان الهدف دراسة التأثيرات الجسدية مثل ضغط الدم، معدل ضربات القلب، ومستويات الهرمونات ، وتوثيق التأثيرات النفسية والروحية بدقة علمية ومحاولة فهم العلاقة بين هذا الجزيء وتجارب الموت الوشيك Near Death Experiences.

من الناحية الطبية، كانت الجرعات آمنة نسبياً تحت إشراف دقيق وظهرت تغيرات في هرمونات مثل ACTH والكورتيزول والبرولاكتين، ما يشير إلى تفاعل جسدي قوي.

لكن المفاجأة الكبرى كانت في الظواهر النفسية:  معظم المشاركين وصفوا تجارب مدهشة، وكثير منها لم يكن مجرد "هلوسة بصرية"، بل رحلة متكاملة إلى عوالم وأماكن غريبة.

لقاء كيانات واعية

النتيجة الأكثر إثارة للجدل في دراسة ستراسمان هي التقارير المتكررة عن لقاء "كيانات واعية" ، وصف المتطوعون هذه الكيانات بأشكال متنوعة: كائنات نورانية، عائلات محبة، مربّين، كائنات تشبه الآلات، وحتى ما يشبه الرموز أو الهندسة الحية ، بعض المشاركين قالوا إن هذه الكيانات تواصلت معهم مباشرة أو قدمت لهم رسائل وإرشادات ، التجربة لم تُشبه حلماً أو خيالاً بالنسبة لهم، بل كانت "أكثر واقعية من الواقع" على حد وصفهم ، في كتابه "دي إم تي : الجزيء الروحي"  يروي ستراسمان أن بعض المتطوعين خرجوا من التجربة وهم مقتنعون أنهم التقوا بذكاء غير بشري في بُعد آخر.


وفي دراسة لاحقة بجامعة جونز هوبكنز على أكثر من 2500 شخص أكدت أن نسبة كبيرة من مستخدمي DMT وصفوا لقاء كائن واعٍ بنسبة 80% ، يوصف الكيان غالباً بأنه محب وخيّر ، نصف الملحدين قبل التجربة غيّروا معتقداتهم بعدها معتبرين أنهم واجهوا شيئاً مقدساً.

هل هي رحلة فعلية إلى عوالم موازية ؟

هنا يبرز السؤال الفلسفي الكبير: هل هذه الكيانات حقيقية ومستقلة عن دماغ الإنسان، أم أنها نتاج داخلي لوعي متحرر من قيوده المعتادة ؟

العلم يعامل هذه الظواهر كتجارب داخلية ناجمة عن التغيرات الدماغية العميقة التي يسببها DMT ، لا يوجد أي دليل تجريبي على أن الوعي "انتقل" فعلياً إلى عالم آخر ، لكن الطبيعة المتماسكة والمتكررة لهذه التجارب تدفع بعض الباحثين لطرح فرضيات مفتوحة، مثل احتمال أن يكون الدماغ يتصل بشيء خارجي لم نفهمه بعد.

صلة بملامح تجربة الموت الوشيك

هناك تشابه كبير بين تقارير DMT وتجارب من كانوا على وشك الموت NDE ، بعض العلماء يعتقدون أن الدماغ قد يفرز DMT طبيعياً أثناء الإحتضار أو الموت مما يفسر رؤى النفق والنور التي يصفها الناجون.

روايات صادمة بعد التجربة

بعض المشاركين، بعد انتهاء الحقن، استيقظوا وهم في حالة حزن وارتباك لأنهم شعروا أنهم عادوا إلى عالم "زائف" أو "وهمي" مقارنة بما عاشوه خلال دقائق تأثير DMT ، وصفوا العوالم التي زاروها بأنها مفعمة بالحياة والنظام والمعنى، بينما بدا لهم عالمهم المادي بارداً ومسطحاً، وكأنه محاكاة غير مكتملة.

يروي ستراسمان في مذكراته البحثية أن بعضهم توسل لإطالة التجربة أو طلب إعادة الحقن، حتى أن ذلك دفعه لاحقاً للتفكير في إمكانية "التسريب المستمر" (Continuous Infusion) لإطالة الرحلة ودراسة الكيانات والتجربة بعمق أكبر.

مر بعض المتطوعين بأزمة وجودية بعد التجربة، إذ لم يستطيعوا التأقلم بسهولة مع فكرة أن حياتهم اليومية قد تكون مجرد "قشرة سطحية" فوق واقع أعمق وأصدق.

هذا النوع من ردود الفعل يفسر لماذا كان ستراسمان وفريقه حذرين للغاية، إذ كان واضحاً أن التجربة ليست مجرد "هلوسة ممتعة"، بل زلزال نفسي وروحي يمكن أن يغير قناعات الإنسان جذرياً.

بعض المشاركين لم يكتفوا باعتبار التجربة "رؤية غريبة"، بل اعتبروها الحقيقة نفسها، بينما بدا لهم عالمنا المادي مجرد حلم أو تمثيل باهت ، وهذا ما جعل أبحاث DMT من أكثر الأبحاث إثارة للجدل في تاريخ علم النفس والوعي.

ذكر ستراسمان نفسه أن شدة الواقعية التي وصفها المشاركون كانت أحد أسباب حيرته وتردده في المضي قدماً، فقد بدا له أن التجربة لا يمكن تفسيرها بالكامل ضمن الإطار الطبي البيولوجي التقليدي ، هذا العامل كان من بين الأسباب التي دفعته لإنهاء الدراسة سنة 1995، لأنه شعر أن البحث بدأ يتجاوز حدود المختبر إلى أسئلة فلسفية وروحية عميقة.

حالة وعي استثنائية وعميقة جداً

حالات الوعي المتغيرة (Altered States of Consciousness) هي أنماط مختلفة من الوعي تختلف عن اليقظة الطبيعية، وتشمل النوم، الأحلام، التأمل العميق، التنويم المغناطيسي، الهلوسة، وتجارب الاقتراب من الموت (NDE)، وحتى حالات الحمى الشديدة أو الحرمان الحسي.

أما تجربة DMT فتقع في أقصى هذا الطيف، إذ تُحدث انتقالاً فورياً وعميقاً خلال ثوان إلى واقع مختلف تماماً، غالباً يوصف بأنه أكثر وضوحاً وواقعية من العالم اليومي، ما يجعلها حالة استثنائية وفريدة لدراسة طبيعة الوعي وحدوده.

لماذا توقفت أبحاث ستراسمان ؟

في عام 1995، أنهى ستراسمان مشروعه لأسباب متعددة:

- صعوبات تنظيمية وقانونية: مادة DMT مُدرجة ضمن جدول المواد المخدرة الأعلى رقابة.

- معارضة لجان الأخلاقيات، خصوصاً عندما أراد الانتقال إلى أبحاث علاجية خارج إطار المستشفى.

- إرهاق فكري: ستراسمان نفسه اعترف بأن تقارير لقاء الكيانات كانت صعبة الفهم والدمج ضمن النموذج الطبي التقليدي.

- صعوبة استقطاب متطوعين جدد بعد أن انتشرت سمعة التجارب بأنها "مخيفة للغاية".

موقف المجتمع العلمي

- لا خلاف على أن DMT مادة حقيقية ذات تأثيرات فيزيولوجية ونفسية مثبتة في دراسات محكمة.

- الكيانات والعوالم: يتم التعامل معها كظواهر إدراكية داخلية، وليس كدلائل على عوالم ميتافيزيقية.

في السنوات الأخيرة عاد الاهتمام العلمي بالمركب وظهرت تجارب مثل "التسريب المستمر" الذي يطيل مدة التجربة إلى نصف ساعة لدراسة تفاصيلها.

هناك أبحاث أولية لاستخدام DMT أو مركبات مشابهة في علاج الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، لكن المجال ما زال في بداياته.

المخاطر والتحذيرات

دي إم تي DMT مادة قوية وقد تسبب ارتفاع ضغط الدم، نوبات قلق، وحتى تجارب مزعجة أو صدمات نفسية ،  في معظم الدول يكون استخدامها غير قانوني، ويخضع لعقوبات صارمة ، أي استخدام يجب أن يكون في إطار بحث علمي خاضع للرقابة الطبية، وليس للتجربة الفردية.

بين الكيمياء والروح

أبحاث ريك ستراسمان لم تجب على كل الأسئلة، لكنها فتحت باباً واسعاً على المجهول يضعنا أمام حدود الإدراك البشري :

هل عقولنا تصنع هذه العوالم داخلياً، أم أننا نكشف عن واقع أوسع لا تدركه حواسنا عادة ؟

حتى الآن، يظل العلم حذراً، لكنه لا ينفي الإحساس العميق الذي يصفه آلاف البشر، بأنهم في لحظات قليلة عاشوا تجربة "لقاء مع ما وراء العالم".

قد يكون الجزيء الروحي DMT مجرد نافذة على الدماغ، أو جسر إلى عوالم موازية ، في كلتا الحالتين يذكرنا بعمق لغز الوعي، وأن أكبر أسرار الكون ربما ما زالت مختبئة في عقولنا.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ