5 نوفمبر 2025

قلعة ميخائيلوفسكي في روسيا - قلاع مسكونة بالأرواح

قلعة ميخائيلوفسكي في روسيا - اغتيال الامبراطور باول
إعداد : كمال غزال
في قلب سانت بطرسبرغ، على جزيرة صغيرة تتقاطع فيها قنوات نهر المويكا والفونتانكا، تقف قلعة ميخائيلوفسكي شامخة كجسد معماري فخم يختزن في جدرانه مزيجاً من المجد والاغتيال والأسطورة. إنها ليست مجرد بناء ملكي، بل ذاكرة حية تختزل الخوف من المؤامرة، وجنون العظمة، وتحول القصر إلى مسرحٍ لما وراء الطبيعة.


قصر وُلد من الخوف

شُيدت القلعة بين عامي 1797 و1801 بأمر الإمبراطور باول الأول، ابن الإمبراطورة كاترين العظيمة. كان باول رجلاً مشحوناً بالهواجس، يخشى الاغتيال، ويرى في قصور سانت بطرسبرغ القديمة مصائد موت مؤجلة. لذلك اختار أن يبني حصنه الخاص، قلعة محاطة بالماء من كل الجهات، مزودة بجسور قابلة للرفع، وأبراجٍ مراقبة على الطراز الغوطي الإيطالي.

كان المشروع رمزاً لعزلته النفسية؛ إذ لم يكن هدفه جمال العمارة فحسب، بل إقامة حصن يصد الخطر القادم من داخل القصر الإمبراطوري نفسه. لكن المفارقة الكبرى أن القلعة التي بُنيت لحمايته، كانت أيضاً مكان مقتله.

الاغتيال الذي أنجب أسطورة

في فجر الثاني عشر من مارس 1801، اقتحم ضباط من حرسه الشخصي القصر، وقاموا بخنقه في سريره وسط ضوء الشموع الخافت. مات باول قبل أن يتم افتتاح قلعته رسمياً. ترك موته صدمة عنيفة هزت البلاط الروسي، وتحولت القلعة إلى رمزٍ للموت المفاجئ والقدر الغادر.


بعد اغتياله، هجرت العائلة الإمبراطورية القصر، إذ كان الجميع يرى أنه ملوث بلعنة الدم. ومنذ ذلك الحين، بدأ الناس يتحدثون عن أصوات غامضة تُسمع في الممرات، وأضواء تتحرك فوق الدرج الملكي، وظلالٍ تمر أمام النوافذ حين ينعكس ضوء القمر على الماء المحيط بالقلعة.

الذاكرة الماورائية

يقول السكان المحليون إن روح باول الأول لا تزال حبيسة المكان، تسير كل ليلة بين الغرف حاملة شمعة في يدها، كما لو كانت تبحث عن الخونة الذين غدروا به.
وفي ليال معينة من شهر مارس، يسمع الحراس أصوات صريرٍ وأبواب تُفتح من تلقاء نفسها، وكأن القصر يعيد تمثيل تلك الليلة المأساوية.

تروى كذلك قصة “الدرج الذي يقود إلى طابقٍ لا وجود له”، حيث يُقال إن أحد الممرات في الجناح الشمالي ينتهي بباب حجري يختفي ويعود للظهور في أوقات مختلفة. يصف الزوار هذا المكان بأنه “منطقة طاقة غريبة” تشوّه إحساس الإنسان بالزمن والمكان.

في الأدب الشعبي الروسي، يُشار إلى القلعة على أنها “جزيرة الأرواح”، لأن المياه التي تحيط بها تعزلها عن المدينة وتجعلها كأنها عالقة بين عالمين: عالم الأحياء، وعالم الأرواح الباحثة عن الخلاص.

البعد الاجتماعي والنفسي

تُظهر قصة القلعة كيف يتحول التاريخ إلى أسطورة حين يتقاطع الرعب الشخصي مع الذاكرة الجماعية ، فـ (باول الأول) بوساوسه وشكه بكل من حوله، مثل حالة الخوف الدائم من الخيانة، وهي حالة انتقلت إلى وعي الشعب نفسه في حقبة كانت مليئة بالانقلابات والمؤامرات. لذلك أصبحت القلعة رمزاً لذلك الهلع الإمبراطوري من الداخل - هلع لا من العدو، بل من الأقربين.

من الناحية النفسية، يمكن فهم الأسطورة كـ إسقاط جمعي؛ فالروس رأوا في شبح الإمبراطور تمثيلاً للخطيئة السياسية التي ارتكبها بلاطهم  - جريمة قتل الأب، على حد تعبير علماء النفس التحليليين  - وهي خطيئة تُعيد نفسها في الذاكرة كلما هبت رياح مارس الباردة.

أما من الناحية الاجتماعية، فقد تحولت القلعة عبر العقود إلى مزارٍ ثقافي وسياحي، يجمع عشاق التاريخ مع هواة الماورائيات. كثيرون يدخلونها ليس ليروا الجمال المعماري، بل ليختبروا رهبة المكان الذي يجمع الفخامة والرعب في آنٍ واحد.

القلعة اليوم… بين المتحف والظل

اليوم، تُعد قلعة ميخائيلوفسكي جزءاً من متحف الإرميتاج في سانت بطرسبرغ. جُددت قاعاتها، وامتلأت باللوحات الفنية والنقوش الإمبراطورية، لكن رغم الأضواء الحديثة ورائحة الطلاء الجديد، يبقى هناك شيءٌ لا يُرى -  صمتٌ كثيف يهبط على الزوار حين يدخلون الغرفة التي قُتل فيها باول.

يقول أحد الحراس القدامى: “ في الليل، عندما تهدأ المدينة، تشعر أن الجدران تتنفس. هناك خطوات خفيفة فوق الأرضية الخشبية، ليست من هذا العالم ولا من ذاك. ”


حين يصبح الرعب مرآة للزمن

قلعة ميخائيلوفسكي ليست مجرد أطلال ملونة بتاريخ دموي، بل رمزٌ نفسي لتقلّبات السلطة والخوف من الزوال ، فيها تتقاطع الهندسة والميتافيزيقا، والسياسة والعقاب، والجمال والرعب، حتى تبدو كأنها تجسيد مادي لفكرة روسية عميقة: أن كل مجد لا بد أن يترك وراءه شبحاً ، ربما لهذا السبب لا تزال القلعة، بعد أكثر من قرنين، تُغوي الزائرين بسحرها المظلم، لتذكرهم أن التاريخ ليس سوى أثرٍ طويل لأصوات لم تهدأ بعد.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ