على ربوة تشرف على الساحل الشمالي الغربي لجزيرة صقلية، تنهض قلعة لا غروا–تلامنكا في كاريني بوصفها واحدة من أبرز المعالم النبيلة في الجزيرة غير أن شهرتها العالمية لا تعود لعمارتها فحسب، بل لأسطورةٍ لا تزال تتردد حتى اليوم: شبح البارونة لورا لانزا و”بصمة اليد الدامية“ التي يُزعم أنها تظهر على جدار إحدى غرف القلعة كل عام في ذكرى مقتلها، 4 ديسمبر/كانون الأول 1563.
لمحة تاريخية عن القلعة
تعود اللبنات الأولى للقلعة إلى المرحلة النورمانية (القرنان 11–12) على يد الفارس رودولفو بونيلو، ثم آلت ملكيتها إلى أسرة “أباته”، قبل أن يمنحها الملك مارتينو الأول سنة 1397 إلى أوبرتينو لا غروا مكافأة لخدماته. وبزواج إلاريا لا غروا من النبيل الكتالاني جيلبرتو تلامنكا سنة 1402 نشأت سلالة لا غروا–تلامنكا حتى 1812، فيما تحولت القلعة من حصنٍ مراقب إلى مقرٍ نبيل وغرف مزينة وفناءات احتفالية.
من واقعة تاريخية إلى "جريمة شرف"
تؤكد السجلات الكنسية في كاريني وقوع مقتل لورا لانزا دي ترابيا وعشيقها لودوفيكو فيرناغالو مساء 4 ديسمبر 1563 داخل القلعة. وتُظهر دراسة أكاديمية موسعة أن الواقعة سُرعان ما غُلفت بالالتباس والصمت العائلي حفاظاً على الهيبة، بينما دافع الوالد تشيزاري لانزا أمام الملك فيليب الثاني بتأويلات قانونية قديمة تُبيح قتل الزانية وعشيقها “صوناً للشرف”. هكذا تداخلت القصة القانونية مع الرواية الشعبية لتصنع أسطورة “سيدة كاريني”.
وترجح مصادر متقاطعة أن الوالد هو من نفذ القتل (أو أمر به) بعد مباغتته ابنته مع لودوفيكو، وهي رواية ستغدو لاحقاً نواة للأناشيد الشعبية والقصائد والتمثيلات المسرحية والتلفزيونية في صقلية.
أسطورة اليد الدامية
تقول الأسطورة إن لورا، وقد طُعنت في صدرها، لامست الجرح ثم أسندت كفها إلى الجدار فخلفت بصمة دموية على حائط غرفة الجريمة في الجناح الغربي.
ويؤكد التقليد المحلي أن هذه البصمة تعود لتبدو جلية في ليلة 4 ديسمبر من كل عام، وكأنها تذكير طقوسي بالمأساة. وقد استفاض كتّاب وشعراء وفولكلوريون إيطاليون في تثبيت هذه الخصوصية في أدبهم الشعبي ، وتذكر مواد معاصرة (سياحية وثقافية) القصة نفسها، بما فيها منشورات حديثة تُعيد رواية تفاصيل “اليد” وربطها بتقاليد شفهية محفوظة في المنطقة.
الظواهر الماورائية المزعومة
إلى جانب “بصمة اليد”، تنتشر شهادات زوار ومواد صحفية محلية عن هبوط مفاجئ في درجة الحرارة في أروقة محددة، وظلال وأصوات هامسة ومشاعر “مراقبة غير مرئية” خلال الجولات الليلية، وهي عناصر مألوفة في ملفات مواقع “المسكون”. وقد وثقت صحيفة لا ريبوبليكا – باليرمو فعالية “مبيت تحقيقي” داخل القلعة بحثاً عن أدلة صوتية نُسب بعضها – وفق هواة المطاردة – إلى لودوفيكو فيرناغالّو.
ومن جهة الزائرين، تزخر المنصات السياحية بتعليقات تُثني على الجولة والمشهد، وتُحيل – بلهجة لا تخلو من الترقب – إلى القصة المأساوية وأجواء الغموض التي تضفيها على المكان. هذه الانطباعات، وإن لم تكن “دليلاً علمياً”، تبقى جزءاً من الخبرة المعاشة التي تغذي سمعة القلعة كأحد أشهر مواقع الأشباح في صقلية.
كيف ينظر المجتمع المحلي إلى الحكاية ؟
تحولت مأساة لورا لانزا إلى تراث لامادي حي في الثقافة الصقلية: أغنيات “بارونة كاريني” الشعبية، ودراسات فولكلورية قديمة وحديثة، وإعادة إنتاج سردي في التلفزيون والمسرح؛ ما عزز تراكم “ذاكرة جمعية” تترافق مع الحقيقة التاريخية للأسطورة. وعلى الصعيد المؤسسي، يعرض مجلس بلدية كاريني القلعة للزيارة الدائمة ويستثمر رمزيتها في الأنشطة الثقافية والسياحية المعاصرة.
القلعة اليوم… عمارة شاهدة على زمنين
لا تزال القلعة محتفظة ببصمتها العربية–النورمانية في بعض بواباتها، وبقاعات مزخرفة وفناءات احتفال، ونقوش لأنساب الأسر المالكة (لا غروا، لانزا، وغيرهما). وهي تُعد من أبرز المساكن النبيلة التاريخية في منطقة باليرمو، مع مسارات للزيارة ومعارض متحفية. هذا الإطار المادي يمنح الأسطورة “مسرحها الواقعي” الذي يجعل الحكاية أكثر حضوراً في وجدان الزائر.
نبذة عن كمال غزال
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".


0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .