في عالم يغلب عليه منطق المختبرات والإحصاءات، ظهر رجل أميركي في بدايات القرن العشرين ليقول: « إن هناك ظواهر كثيرة جداً، لدرجة لا يمكن معها تجاهلها، لكنها لا تنسجم مع ما نعرفه عن العلم » ، ذلك الرجل هو تشارلز فورت (Charles Fort)، الذي يُعد الأب الروحي لكل من تجرأ على التساؤل في المناطق المحظورة بين العلم والأسطورة، والإنسان والمجهول.
من الصحافة إلى عالم اللامعقول
وُلد فورت سنة 1874 في ألباني - نيويورك لعائلة متواضعة. كان شغوفاً بالقراءة والملاحظة منذ صغره، لكنه ترك الدراسة باكراً ليعمل في الصحافة. غير أن ما ميزه عن أقرانه لم يكن قلمه بل هوسه بالمجهول.
قضى سنوات طويلة في المكتبة العامة بنيويورك وفي المتحف البريطاني بلندن، يجمع آلاف القصاصات والمقالات من الصحف والمجلات العلمية التي كانت تذكر حوادث غريبة نُشرت ثم أُهملت: أمطار من الضفادع، سقوط أحجار من السماء، ظهور أضواء مجهولة، اختفاءات بشرية، آثار غامضة على الرمال... كل ذلك كان بالنسبة له “أدلة منفية” من التاريخ العلمي.
كتاب الملعونين
في عام 1919 نشر فورت كتابه الأشهر «كتاب الملعونين» The Book of the Damned في عام 1919 ، الذي أحدث صدمة فكرية في الأوساط الأكاديمية.
لم يكن الكتاب رواية ولا بحثاً علمياً بالمعنى التقليدي، بل كان أرشيفاً من الظواهر التي رفضها العلم لأنها لا تناسب نظرياته ، وقد استخدم فورت كلمة ملعون The Damned مجازاً لوصف تلك الحقائق التي “نُفيت” من جنة العلم كما نُفي الشيطان من السماء.
كتب يقول: « العلم ليس سوى نظام إيمان آخر، له كهنته ومحرماته... وما لا يناسب نظرياته يُلعن ويُنفى.»
من بين ما رصده:
- حالات سقوط أمطار لزجة أو دموية سجلت في سجلات أرصاد حقيقية.
- ظواهر أجسام طائرة قبل عصر الطيران بقرون.
- روايات عن أناس اختفوا أمام الشهود.
- وحوادث حيوانات وأشياء تظهر فجأة في أماكن مغلقة دون تفسير.
"فورتية" الفكر
بعد نشر كتبه تباعاً New Lands (1923)، Lo! (1931)، و Wild Talents (1932) ظهر مصطلح جديد في اللغة الإنجليزية هو Fortean phenomena، أي الظواهر الفورتية، نسبة إلى فورت.
ويقصد به كل حدث أو ظاهرة غير مفسّرة علمياً أو مرفوضة من التيار العلمي التقليدي، مثل:
- الأجسام الطائرة المجهولة (UFOs).
- الظواهر الجوية النادرة.
- الكائنات المجهولة أو “الوحوش الغامضة” (Cryptids).
- حالات الاختفاء والظهور المفاجئ، بل وحتى الزمن الملتبس (Time slips).
فورت والتمرد على «ديانة العلم»
لم يكن تشارلز فورت مؤمناً بالغيبيات الدينية التقليدية، لكنه أيضاً لم يؤمن بصرامة العلم. كان يرى أن الإنسان أسير نظريات مؤقتة، وأن الحقيقة المطلقة غير قابلة للإحاطة لذلك كان يكتب بنبرة ساخرة من العلماء الذين "يعدّون أنفسهم كهنة للواقع"، فيقول: « لو كانت نظرية داروين صحيحة تماماً، لما كان هناك علم، بل دين جديد اسمه التطور.»
كان هدفه ليس إثبات الخرافة، بل زعزعة الثقة العمياء في أي منظومة فكرية تدعي امتلاك الحقيقة k إنه أقرب إلى فيلسوف للريبة، أو ناقد ميتافيزيقي للعلم الحديث.
تأثيره العميق على ثقافة القرن العشرين
رغم أنه لم ينل شهرة كبيرة في حياته (توفي عام 1932)، إلا أن تأثيره تزايد بعد موته على نحو مذهل k في الأربعينيات تأسست "جمعية فورت" (The Fortean Society) لمتابعة فكره ونشر الظواهر الغريبة واستلهمت منه مجلات مثل "القدر" Fate و أزمنة فورتية Fortean Times، التي أصبحت المرجع العالمي لتوثيق الغرائب ، وقد ألهم تشارلز فورت كتّاباً كباراً مثل روبرت أنتون ويلسون، جون كيل (مؤلف The Mothman Prophecies)، وكولن ولسن ، واعتبره علماء اجتماع مثل توماس كون نموذجاً مبكراً في نقد “النموذج العلمي المهيمن” ، حتى اليوم، تُستخدم كلمة فورتي Fortean في الإعلام والبحث لتوصيف أي ظاهرة تقع في المنطقة الرمادية بين العلم والخيال.
فورت والعوالم
من أكثر أفكار فورت إثارة كانت فرضيته الغامضة حول أن الأرض ليست مغلقة فيزيائياً ولا زمنياً، بل تتداخل مع “عوالم أخرى” قد تكون مسؤولة عن ظهور الكائنات والظواهر الغامضة.
قال في أحد نصوصه: « ربما نحن ممتلكات أحد آخر... ربما نحن نعيش في مزرعة كونية، تُفتح أبوابها وتُغلق حسب مزاج أصحابها.»
هذه الفكرة سبقت بعقود طويلة مفاهيم “الكون المتعدد” و“الأكوان المتوازية” التي أصبحت مقبولة جزئياً في الفيزياء النظرية المعاصرة.
تشارلز فورت في عيون اليوم
يُنظر إلى فورت اليوم على أنه أب الظواهر الخارقة الحديثة (Father of the Unexplained)، ليس لأنه قدم أدلة حاسمة، بل لأنه فتح الباب أمام التفكير الحر خارج النموذج العلمي الصارم وأسس لأسلوب نقدي ساخر يدمج العلم بالأدب والفلسفة ، ووضع الأساس لفكرة جمع البيانات المرفوضة وتحليلها كمصدر لفهم جديد للواقع.
في زمننا الرقمي، قد نرى آلاف الفيديوهات والمقالات التي تحمل روحه من برامج مثل Ancient Aliens إلى قنوات اليوتيوب المتخصصة بالغموض - لكنها كلها تدين له بالبذرة الأولى.
إرث فورت الفكري
لقد كان تشارلز فورت أقرب إلى كاتب ميتافيزيقي متنكر في ثوب ساخر ، لم يطالب أحداً بالإيمان بما جمعه، لكنه طالبنا بألا نغلق عقولنا أمام الغرابة ، كان يرى أن الحقيقة - مثل الضوء - تُعمي من يحدّق فيها طويلاً، لذلك من الحكمة أن نتلمسها في الظلال.
تشارلز فورت لم يكن عالماً ولا متنبئاً ولا ساحراً، بل مؤرخ الغرابة الذي دوّن كل ما رفضه الآخرون بفضله وُلد مصطلح "ظواهر فورتية" وولدت معه مدرسة فكرية كاملة تمزج بين النقد العلمي والخيال الفلسفي والبحث عن المجهول.
ولعل إرثه الأهم هو سؤاله البسيط والخالد: « هل نحن متأكدون حقاً من أننا نفهم هذا العالم ؟ أم أننا فقط اعتدنا على تجاهل ما لا نفهم ؟».
نبذة عن كمال غزال
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".إقرأ أيضاً ...
- إيمانويل سويدنبورغ: من مختبر العلم إلى عوالم الروحانيات
- الباراسيكولوجي : محاولة لفهم ما وراء العقل والحواس
- الموقف من الماورائيات : بين إيمان وإنكار وبحث
- تأملات باحث في الماورائيات بعد سنوات من التيه
- ما وراء الطبيعة بين علم النفس والدين والباراسيكولوجي
- ما وراء الطبيعة: الدليل الشامل لفهم الظواهر الخارقة
- ما وراء الطبيعة : أعمق من مسلسل نتفليكس أو رواية في سلسلة
- رؤية الباحث سامر اسلامبولي حول الجن
- محمود صلاح : “باحث” غارق في العلم الزائف
- بين ما وراء الطبيعة والميتافيزيقا : الأركان الخمسة للمجهول





0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .