6 سبتمبر 2025

عبد البحر : اسطورة جني الماء من النيل إلى الخليج



عبد البحر - ود البحر - الجني الغواص - الخليج والعراق والنيل - أبو درياه
إعداد : كمال غزال
في أعماق الذاكرة الشعبية لمناطق تمتد من ضفاف نهر النيل حتى سواحل الخليج العربي، يتردد اسم غامض يثير الخوف والدهشة معاً: عبد البحر أو ود البحر. كائن أسطوري نصفه بشر ونصفه غامض، يسكن الماء ويظهر حيناً في الليالي القمرية، وأحياناً يختطف الصيادين أو يربك السفن، وأحياناً يتجول كجار غامض بين القرى النيلية. 

أسطورة هذا الكائن ليست مجرد حكاية للتسلية، بل هي مرآة لعلاقة الإنسان بالمجهول، تمتزج فيها عناصر البيئة، والدين، والأساطير القديمة، وحتى التفسيرات العلمية الحديثة.

أصل الأسطورة وجذورها التاريخية

تعود فكرة "الإنسان المائي" إلى أزمنة سحيقة. ففي حضارات بلاد الرافدين، ظهر كائن يدعى أوانس  Oannes، نصفه إنسان ونصفه سمكة، خرج من مياه الخليج ليعلم البشر الحكمة والكتابة.

 ذكر القزويني في عجائب المخلوقات عن "إنسان الماء" الذي جُلب إلى بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان له جسد بشري وذيل سمكة.

أما في القرن الإفريقي، فقد وردت قصص مبكرة عن مخلوقات بوجوه بشرية تعيش في بحر الحبشة (البحر الأحمر)، كما في كتاب عجائب الهند لـ بُزرك بن شهريار الرامهرمزي. هذه الحكايات شكلت الأساس الذي بُنيت عليه لاحقاً صورة ود البحر: كائن هجين يربط البر بالماء، والواقع بالخيال.

معنى الاسم: "ود البحر" أم "عبد البحر" ؟

يحمل الاسم نفسه دلالات تكشف عن أصوله الثقافية.

- في اللهجة السودانية، كلمة "وَد" تعني "ولد"، فيصبح "وَد البحر" أي ابن البحر، إشارة إلى كائن نشأ من النهر ويعيش فيه.

- أما "عبد البحر" فقد تكون تحريفاً عن الاسم الأصلي بسبب التشابه في اللفظ عند من لا يعرفون اللهجة، أو تعبيراً فصيحاً عن كائن خادم للبحر وخاضع لسلطانه.

هذا التباين يعكس اختلاف النظرة للكائن: فهو في السودان ابن البيئة المائية، بينما في مناطق أخرى قوة غامضة تابعة للبحر.

ود البحر : السودان والقرن الإفريقي

في السودان، يُروى عن ود البحر أنه رجل قصير، كثيف الشعر، مسالم، يظهر على ضفاف النيل ليلاً ، بعض المزارعين يؤكدون أنهم تحدثوا معه وكأنه جار مائي يعيش بينهم ، تحكي روايات أخرى عن ظهوره ثم قفزه فجأة إلى الماء عند اكتشافه، تاركاً تموجات غامضة على السطح. في ولاية الجزيرة، يترك الصيادون جزءاً من صيدهم قرب صخرة معينة، اعتقاداً منهم أنه يأخذها ولا يعبث بشباكهم.

أما في إثيوبيا وإريتريا، فتظهر المعتقدات في طقوس الزار عن أسياد الماء الذين يشبهون فكرة ود البحر، بينما في الصومال تتخذ الأسطورة هيئة حوريات بحر وجن يسكنون الأمواج.

أبو درياه : الخليج العربي

في الخليج، يتجسد الكائن باسم آخر: أبو درياه، ويُصوّر كـ جني بحري أو جني غواص ، من الجن  السفلي فهو شرير نصفه إنسان ونصفه سمكة ، يظهر بين صلاة العشاء والفجر، يهاجم السفن، ويخطف البحارة ، يحكي البحارة أنه يصرخ بصوت يشبه الغريق ليستدرجهم، ثم ينقلب عليهم ، كانوا يطرقون الأجراس ويحدثون ضوضاء لإبعاده، في مزيج من السحر الشعبي والخوف الجماعي.

أصل هذه الأسطورة فارسي حيث تعني كلمة "بابا دريا" أبو البحر، وانتقلت عبر التبادل الثقافي بين سواحل الخليج وبلاد فارس.

إنسان الماء : العراق

في جنوب العراق، خصوصاً في البصرة، اختلطت أسطورة أبو درياه الخليجية بموروث بلاد الرافدين القديم ، تروى قصص عن نداءات غامضة في الأهوار، يُظن أنها صادرة عن جن الماء ، أما في الماضي كان "إنسان الماء" في الميثولوجيا البابلية رمزاً للحكمة والمعرفة، قبل أن يتحول في المخيلة الشعبية إلى مخلوق مخيف.

ود البحر في الطقوس الصوفية والشعبية

في طقوس الزار، تُؤخد المريضة إلى النيل فجراً وتُقدم قرابين رمزية، اعتقاداً أن سيد البحر سيرفع عنها الأذى، ويحكي بعض المتصوفة عن لقاءات رمزية مع "رجال البحر"، كنوع من الكرامة الروحية ، هذه الطقوس تعكس دمج الأسطورة في العلاج الشعبي والروحانية، وليست مجرد خرافة للتسلية.

قصص وتجارب شخصية


من السودان

إحدى القصص الغريبة التي وردت إلى موقعنا ، موقع ما وراء الطبيعة  Paranormal Arabia، يرويها لنا خالد من السودان، حيث يصف تجربة مدهشة عاشها في منتصف الثمانينيات (1984) أثناء رحلة دراسية قرب الحدود السودانية الإثيوبية في منطقة يابوس، حين شاهد برفقة زملائه مخلوقاً غامضاً خرج من قلب النهر وسار منتصباً على قدميه، في مشهد أربك الجميع وترك أثراً عميقاً في نفسه ، وبعد أن حاولوا الاقتراب وتوثيق ما حدث أوقفهم حارس عسكري موضحاً أن الكائن يُعرف محلياً باسم "عبد البحر" أو "ود البحر"، وهو مسالم يتغذى على النباتات والأسماك، وقد صدرت أوامر صارمة بعدم التعرض له. 

لاحقاً، اكتشف خالد أن هذه الأسطورة متداولة في شمال السودان حيث يُطلق على النهر لفظ "البحر"، ومن هنا جاء اسم "ولد البحر". تجربة خالد ظلت محفورة في ذاكرته كأكثر المواقف غرابة وغموضاً التي مر بها في حياته.

 وفي حادثة أخرى في ولاية الجزيرة رأت امرأة كائناً قصيراً وكثيف الشعر يقفز فجأة إلى النهر عند رؤيتها له ، وصيادون يتركون الطعام على الصخور "كهدية" لود البحر مقابل عدم تخريب شباكهم.


من الخليج

بحارة كويتيون أقسموا أنهم رأوا أبو درياه يتسلق سفينتهم ليلاً، وكاد يخطف أحدهم لولا تنبه الطاقم.

في البحرين، يُقال إن غواص لؤلؤ اختفى ولم يبق سوى معداته، وجرى اتهام أبو درياه بخطفه.

من العراق

صيادو الأهوار يسمعون نداءات استغاثة غامضة في الليل، يظنونها نداء جنية الماء أو رجل البحر.

تقاطع مع أسطورة أبو السلاسل

تتلاقى أسطورتي أبو درياه وأبو السلاسل في بعض الرموز والمعتقدات الشعبية، لكنهما لا يمثلان بالضرورة الكائن نفسه، بل يعكسان صورتين مختلفتين للخوف البحري والنهري في المخيال الخليجي والعراقي. 

يُعرف أبو درياه في تراث الخليج العربي باعتباره جنياً بحرياً مخيفاً، نصفه إنسان ونصفه سمكة، له ذيل ضخم وقوة خارقة، وتنتشر حكاياته بين الغواصين وصيادي اللؤلؤ منذ قرون. ويقال إنه يهاجم المراكب ليلًا، ويصدر صرخات تشبه صوت غريق ليخدع البحارة فيندفعوا لإنقاذه، ثم يغرق سفنهم. 

في المقابل، يظهر أبو السلاسل في الحكايات الشعبية على ضفاف شط العرب ومناطق الأهوار في العراق، حيث يصفه الناس ككائن غامض لا يُرى عادة، بل يُعرف من صوت السلاسل التي تُجر في الماء أو على اليابسة، وكثيراً ما يُعتبر ظهوره نذير شؤم أو إنذاراً بوقوع مأساة مثل غرق قارب أو موت شخص. بعض الروايات تصفه كروح معذبة أو جنّ مسجون تم إطلاقه، في حين يراه آخرون جنّياً نهرياً يتجول بين المستنقعات والأنهار. 

ورغم أن كلا الأسطورتين ترتبطان بالماء والخوف الجماعي، فإن أبا درياه يتجسد كخطر ظاهر وملموس، بينما يبقى أبو السلاسل أكثر رمزية وغموضاً، فهو تجسيد لخوف داخلي أو حدث غيبي يقترب. ومن هذا المنظور يمكن اعتبارهما امتداداً لرمزية واحدة: أبو درياه يمثل التهديد المادي الذي يواجه البحارة في عرض البحر، بينما أبو السلاسل يجسد الخطر الخفي والنذير الذي يسبق الكوارث في الأنهار واليابسة. 

هكذا تتقاطع الحكايتان في الإطار الثقافي نفسه، لكنهما تبقيان متميزتين في تفاصيل السرد الشعبي وصور الرعب التي تثيرانها.

حيوان مائي أم جن غواص ؟

يُحتمل أن الأسطورة نشأت من مشاهدات لحيوانات بحرية حقيقية مثل: الأطوم (بقرة البحر) الذي يشبه بجسمه ذوات الذيول السمكية ، الفقمة الراهب التي كانت تنتشر في مياه الخليج العربي ، لكن في الموروث الإسلامي، غالباً ما يُفسر ود البحر كنوع من الجن الغواص ، وتذكر طقوس الزار في السودان "أسياد البحر" الذين يجب استرضاؤهم ، تذكر بعض الأحاديث الشعبية أن الجن يسكنون البحار والأنهار، ما يربط الكائن مباشرة بعالم الغيب.

لماذا تبقى الأسطورة حية ؟

تمثل أسطورة عبد البحر رمزاً لصراع الإنسان مع المجهول ، فهي إنذار للصغار بعدم الاقتراب من النهر ليلاً ، وتعبير عن مخاوف البحارة من أخطار البحر الغامضة ، أو مجرد وسيلة روحية لشرح ما لا يمكن تفسيره علمياً.وبينما تقدم العلوم تفسيرات جديدة، تبقى الأسطورة حية في المخيلة الشعبية لأنها تخاطب حاجة الإنسان للأمان والقصص.

من أعماق نهر النيل إلى مياه الخليج الدافئة، عبر عبد البحر حدود الدول والثقافات، جامعاً بين الخوف والفضول، بين الحيوان الطبيعي والجن الخارق. سواء كان ود البحر ابن النهر المسالم، أو أبو درياه الجني المخيف، تبقى الأسطورة مرآة لعلاقة الإنسان بالبحر، ذلك الامتداد الأزلي الذي يمنح الحياة ويبتلعها في الوقت نفسه. 

ومع ذلك، علينا أن نتذكر أن أغلب كائنات كوكبنا ما زالت مجهولة بانتظار أن تكتشف، فالعلم لم يكشف بعد سوى عن جزء صغير من أسرار أعماق البحار والأنهار والغابات. وربما، في يوم ما، نكتشف أن بعض الأساطير لم تكن خيالاً صرفاً، بل صدى لمخلوقات حقيقية تعيش في زوايا هذا العالم، مختبئة عن أعيننا، تماماً مثل أسطورة عبد البحر.

1 تعليقات:

غير معرف

يقول...

wlskdàolfpzd kflmfrp

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ