تتكرر في مناطق مختلفة من العالم ظاهرة محيرة: اندلاع حرائق متكررة داخل المنازل أو القرى أو المزارع دون سبب واضح، وبغياب أي مؤشر مباشر لمصدر الاشتعال. هذه الظاهرة التي يصفها البعض بـ«الحرائق الغامضة» شكلت مادة للجدل بين التفسيرات العلمية الجادة والروايات الماورائية التي تنسبها إلى الجن، الأرواح، أو أعمال السحر.
في هذا المقال، نقدّم تحقيقاً بانورامياً متوازناً يعرض الأساطير التي دارت حولها في الفلكلور ، أبرز الحوادث، ويستعرض التفسيرات العلمية والماورائية.
أساطير حول كائنات غيبية تفتعل الحرائق
عدد كبير من الأساطير والفولكلور العالمي ربطت اندلاع الحرائق بكائنات غيبية أو أرواح شريرة. هذه المرويات كانت وسيلة الشعوب القديمة لتفسير ظاهرة النيران المفاجئة أو «الحرائق بلا سبب». إليك أبرزها:
1- الجن في التراث العربي والإسلامي
يُنسب إلى الجن القدرة على إشعال النار، بل إن أصل كلمة «جني» في بعض التفاسير يرتبط بالخفاء والقدرة على الإيذاء ، في الموروث الشعبي، يقال إن «عمار المكان» (الجن المقيمون في المنازل) قد يُحدثون حرائق إذا أُسيء إليهم أو أُزعجوا ، بعض الحكايات الشعبية في المغرب والجزائر تنسب النيران المتكررة في البيوت القديمة إلى أعمال «سحر ناري» يستعين فيه الساحر بالجن، بعض الفقهاء حذّروا من التسرع في هذه التفسيرات، معتبرين أنه بلا دليل شرعي أو علمي قاطع.
2- أبو فانوس في التراث العربي
يُقال إن بعض الفلاحين والرعاة شاهدوا لهباً يتحرك في الصحراء أو قرب القبور، ونُسب ذلك إلى الجن الذين يُشعلون النار لإرعاب المارة ، يرى بعض الباحثين أن هذه الظواهر يمكن أن تكون وراء قصص الحرائق الغامضة، إذ قد يختلط ظهور لهب غامض في الهواء باندلاع حريق مفاجئ في مكان قريب، فيفسر الأمر بأنه من صنع الجن أو الأرواح الشريرة.
3- الأرواح النارية في الفولكلور الأوروبي
في الأساطير الجرمانية والإسكندنافية، هناك كائنات تُسمى أرواح النار Fire Spirits يمكنها إشعال اللهب من العدم كوسيلة للانتقام أو لحماية الكنوز المدفونة ، وفي بريطانيا وأيرلندا، ارتبطت أضواء المستنقعات (Will-o’-the-Wisp) بأرواح خادعة تقود الناس إلى الضياع، وأحياناً يُقال إنها تفتعل نيراناً صغيرة في الطريق.
4- الكابّا والهيتوداما في اليابان
الهيتوداما (Hitodama) هي كرات نارية زرقاء أو بيضاء تظهر في الليل، يقال إنها أرواح الموتى. في بعض الأساطير، يمكن لهذه الأرواح أن تُشعل النار إذا اقتربت من المنازل بينما الكابّا (Kappa) هي مخلوقات مائية خرافية، لا ترتبط عادة بالنيران، لكن بعض الأساطير المحلية زعمت أنها قد تستحضر حرائق لتخويف البشر وإبعادهم عن البرك والأنهار.
5- الشياطين النارية في الفلكلور المسيحي
في القرون الوسطى، اعتُبرت بعض الحرائق التي تندلع في الأديرة أو القرى بفعل «شياطين نارية» أرسلها إبليس لعقاب الناس ، وقد انتشرت قصص عن الساحرات اللواتي يستعن بالشياطين لإشعال نيران من بعد لإثبات قوتهن أو لإيذاء خصومهن.
6- الفولكلور الهندي
في بعض مناطق الهند، تتحدث الأساطير عن كائنات تُسمى تشوريلز Churels (أرواح نساء ميتات بطريقة مأساوية) تستطيع افتعال حرائق صغيرة في القرى لإرعاب السكان ، كذلك تُعرف طقوس السحر الأسود بقدرتها على استدعاء «أرواح نارية» لإحراق المنازل أو المحاصيل كنوع من الانتقام.
7- الميثولوجيا الإسكندنافية
الإله لوكي (Loki) ارتبط بالنار والفوضى، وفي بعض المرويات كان قادراً على إشعال الحرائق في منازل البشر كعقاب أو لهو ، كذلك، ظهرت قصص عن «أشباح نارية» تتجول في الغابات وتحرق ما تصادفه، فسّرها الناس كأرواح محاربين موتى.
8- أمريكا اللاتينية
تُروى قصص عن لالورونا La Llorona التي تُشعل أحياناً نيراناً صغيرة في البيوت لتخويف السكان
9 - أفريقيا - جنوب الصحراء الكبرى
هناك اعتقاد بوجود «أرواح أسلاف غاضبة» قد تُظهر غضبها عبر إشعال النيران في الأكواخ أو الحقول.
الأساطير عبر الثقافات تُظهر أن فكرة «الكائن الغيبي الذي يُشعل الحرائق» كانت شائعة عالمياً، سواء نُسبت إلى الجن، الشياطين، الأرواح التائهة، أو حتى آلهة قديمة. هذا يعكس حاجة الإنسان لتفسير ما يعجز عن فهمه علمياً، وهو ما يجعل هذه الأساطير حية حتى اليوم في تفسير ظواهر مثل «الحرائق الغامضة».
أمثلة من العالم
حرائق الأصابعة – ليبيا (2025)
شهدت مدينة الأصابعة الليبية اندلاع حرائق متكررة التهمت عشرات المنازل منذ فبراير 2025، حيث سُجلت أكثر من 150 حالة حريق خلال أسابيع قليلة. لم يُعرف السبب الحقيقي حتى كتابة التقارير، بينما تداول السكان فرضيات تتراوح بين تسرب غازات مجهولة، أعمال تخريب متعمدة، أو انتقام «عمار المكان» من الجن.
إقرأ المزيد عن حرائق الأصابعة الغامضة: هل للجن والسحر يد في الكارثة ؟!
إقليم ميدلت - المغرب ( 2019)
اشتكى رب أسرة من اندلاع نيران مفاجئة في منزله نهاراً فقط. فسر بعض الجيران ذلك بأنه عمل من الجن، بينما حاول «مشعوذون» ابتزاز العائلة بدعوى طرد الأرواح مقابل المال. لم يثبت أي سبب مادي واضح حينها، ما زاد الغموض حول الحادثة.
كاستامونو - تركيا (2021)
عانت عائلة تركية من 17 حريقاً صغيراً خلال أسبوعين داخل منزل خشبي. لم يجد الخبراء تفسيراً علمياً واضحاً، ما دفع العائلة إلى الاستعانة برجال دين، معتقدين أن قوى غيبية وراء الحوادث.
البنغال الغربية الهند (2009)
اشتعلت 55 كوخاً من القش في قرية صغيرة بشكل متزامن. رجّح خبراء الإطفاء أن السبب غازات ميثان متصاعدة من المستنقعات المجاورة، بينما رأى السكان أن الأمر مرتبط بأرواح شريرة.
ماليزيا (2011)
في مدينة كوتا بارو الماليزية، عانت السيدة زينب سليمان (73 عاماً) من واحدة من أغرب موجات الحرائق الغامضة التي سُجلت في المنطقة. فقد اندلعت في منزلها أكثر من 200 حريق خلال سنوات قليلة، دون تفسير علمي حاسم. كان معظمها يستهدف الأغراض المصنوعة من القماش: الملابس، السجاد، وحتى الستائر.
اعتقد السكان أن ما يحدث مرتبط بظاهرة ماورائية تُسمى بايروكينيسيس (Pyrokinesis)، أي القدرة الغامضة على إشعال النار عن بُعد، وغالبًا ما تُنسب إلى الجن أو الأرواح الشريرة.
استعانت زينب بمجموعة محلية تُدعى دار الشفاء، تضم معالجين روحانيين يقرأون القرآن ويستخدمون الماء المبارك لطرد الأرواح من مقتنياتها، خصوصاً السيوف التقليدية (الكيريس) والأواني النحاسية التي ورثتها عن أجدادها، والتي قيل إنها مرتبطة بالسحر الأسود. غير أن محاولاتهم لم تنجح، إذ استمرت النيران بالاندلاع، حيث سجلت زينب بنفسها 46 حريقاً جديداً في أسبوع واحد.
كما حاول وسيط روحاني سيامي التدخل، لكنه فشل بعد أن التهمت النيران 200 قطعة من الملابس بينها سجادات صلاة. حتى زوار أجانب من الولايات المتحدة عرضوا عليها المساعدة، لكنها رفضت خوفًا من إثارة غضب الأرواح أكثر.
تظل قصة زينب واحدة من أبرز الشواهد التي تمزج بين المعتقدات الشعبية حول الأرواح النارية والسحر، وبين غياب التفسير العلمي المقنع لهذه الحرائق المتكررة ، إقرأ المزيد عن قصتها
قصة من موقع ريديت (2025)
نشر حساب باسم aftertwist1979 على موقع ريديت Reddit قصة عائلته التي عاشت ثلاثة أيام من الحرائق الغامضة داخل منزلهم. بدأت الحوادث بسقوط شمعة، لكن بعدها اشتعلت مفرش طاولة بلا سبب، ثم اندلعت نيران في زوايا مختلفة من الأريكة دون كهرباء أو مواد مشتعلة.
عندما استدعوا الإطفائية، خلص المحقق إلى أن الحرائق لا يمكن أن تكون إلا «مفتعلة»، لكن العائلة أكدت أن أحداً من أفرادها لم يشعل النار عمداً. في الليلة التالية اشتعل ستار الحمام من منتصفه بينما كانوا في الغرفة المجاورة. لجأت العائلة إلى طقس «التبخير بالمريمية» (saging) لطرد الطاقات السلبية، لكن الحرائق عادت لتثير حيرتهم. الصور التي نشرها صاحب القصة على Reddit أظهرت آثار احتراق حقيقي.
التفسيرات الماورائية
عمار المكان والجن
يرى كثيرون أن الجن، باعتبارهم سكاناً خفيين، قد يُحدثون أذى للبشر بإشعال النيران.
الأرواح الشريرة والطاقات السلبية
في الثقافات الشعبية، تُعزى بعض الحرائق إلى أرواح غاضبة أو طاقات مشبعة بالكراهية تلتصق بمكان ما وتؤدي إلى اضطرابات مادية مثل النيران.
السحر والشعوذة
يعتقد البعض أن السحرة قد يستخدمون طقوساً لإشعال النيران من بعد، كنوع من الأذى أو العقاب. ورغم انتشار هذا الاعتقاد، لم تُثبت التجارب العلمية قدرة السحر على توليد النار دون وسيط مادي.
الأشباح الضاجة
في الفولكلور الأوروبي ثم في أدبيات الباراسيكولوجي، يُشار إلى الأشباح الضاجة Poltergeists بأنها كائنات غير مرئية أو طاقات نفسية متجسدة تحدث اضطرابات مادية: كتحريك الأشياء، إسقاط الأغراض، إصدار أصوات غريبة، أو حتى إشعال النيران بلا سبب.
رغم غياب الأدلة العلمية القاطعة، إلا أن فرضية الأشباح الضاجة تظل إحدى أكثر التفسيرات الماورائية شيوعًا لتبرير الحرائق التي تقع بلا سبب ظاهر، خصوصًا حين ترافقها ظواهر أخرى كالأصوات أو تحريك الأشياء.
إشعال الحرائق عن بعد
بايروكينيسيس (Pyrokinesis) هو مصطلح ظهر في الثقافة الشعبية والخيال العلمي ليصف قدرة خارقة على إشعال النار أو التحكم بها عن بُعد بمجرد قوة العقل أو الإرادة. تعود الكلمة إلى جذور يونانية: πῦρ (نار) و κίνησις (حركة).
ارتبطت هذه الظاهرة في بعض الحوادث الماورائية بشهادات عن حرائق تنشب بلا سبب مادي، حيث يُعتقد أن مصدرها طاقة بشرية غير واعية أو تأثير أرواح خفية.
بعض تقارير القرن العشرين سجّلت حوادث حرائق صغيرة ارتبطت بوجود مراهقين أو أطفال في المنازل، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد أن هذه الظاهرة قد تكون مرتبطة بطاقة نفسية لا واعية تنفلت على شكل بايروكينيسيس (Pyrokinesis).
بعض تقارير القرن العشرين سجّلت حوادث حرائق صغيرة ارتبطت بوجود مراهقين أو أطفال في المنازل، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد أن هذه الظاهرة قد تكون مرتبطة بطاقة نفسية لا واعية تنفلت على شكل بايروكينيسيس (Pyrokinesis).
ورغم أن الفكرة شائعة في الروايات والأفلام وأدبيات الخوارق، فإن العلم لم يقدّم أي دليل تجريبي يثبتها، ويعتبرها الباحثون في الباراسيكولوجي أقرب إلى فرضية غير مثبتة أو تفسير أسطوري لحوادث غامضة مثل الحرائق المتكررة.
التفسيرات العلمية المحتملة
الغازات القابلة للاشتعال
- الميثان، وهو غاز عديم اللون والرائحة، يمكن أن يتسرب من باطن الأرض ويشتعل تلقائياً عند تفاعله مع الأوكسجين.
- مركبات الفسفور (مثل الفوسفين) قد تشتعل ذاتياً عند تعرضها للهواء، وقد تفسّر بعض الحرائق المفاجئة.
الأعطال الكهربائية
التماس الكهربائي أو شرارة غير ملحوظة كفيلة بإشعال الستائر أو الأثاث K بعض الحرائق تندلع من سخانات أو أجهزة قديمة دون أن ينتبه لها السكان.
التفاعلات الكيميائية
- بعض المواد (زيوت، غبار خشب) قد تشتعل تلقائياً عند تراكمها في ظروف حرارية ورطوبة معينة.
- تركيز أشعة الشمس عبر زجاج مكسور يمكن أن يشعل ورقاً أو قماشاً.
الأفعال الإجرامية
قد تثبت التحقيقات أن الحرائق افتُعلت عمداً لأسباب شخصية أو مادية، ومثال على ذلك ما حصل بين عامي 2004 و 2005 في كانيتو دي كارونيا وهي قرية صغيرة بجزيرة صقلية، إذ اندلعت حرائق غريبة في الأجهزة الكهربائية والأثاث لعدة أشهر. عجز الخبراء عن تفسيرها بداية، وتناقل الإعلام فرضيات عن أشعة كهرومغناطيسية أو حتى كائنات فضائية. لكن التحقيقات لاحقًا أثبتت أن بعض سكان القرية افتعلوا الحرائق عمداً.
وفي الختام ، تُظهر الشواهد أن أغلب الحرائق الغامضة تنتهي بتفسيرات علمية أو جنائية، لكن الغموض الذي يحيط ببعض الحالات يجعلها أرضاً خصبة للخيال والأساطير. وبينما يسعى العلم إلى الكشف عن الأسباب المادية عبر الفحص والاختبار، تظل التفسيرات الماورائية جزءاً من المخيلة الشعبية التي تحاول ملء الفراغ حين يعجز المنطق عن تقديم إجابة سريعة.
وهكذا، تبقى هذه الحرائق الغامضة ظاهرة عابرة للحدود والثقافات، تجمع بين العلم والأسطورة، وتذكرنا دوماً بأن ما نجهله أوسع بكثير مما نعرفه.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .