اليابان بلد العجائب، ليس فقط بتطورها التكنولوجي المذهل وثقافتها المعاصرة، بل أيضاً بجذور روحية وفولكلورية ضاربة في أعماق التاريخ ، هنا، يلتقي عالم البشر بعالم الأرواح، وتختلط الأساطير القديمة بالحياة اليومية حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ من وجدان الناس.
تجول في شوارع طوكيو المزدحمة أو في أزقة كيوتو القديمة، وستشعر بأن وراء هذه المباني الحديثة وأضواء النيون عالماً خفياً من الأرواح والكائنات الغامضة.
في هذه الجولة الماورائية، سنغوص في أعمق زوايا هذا العالم: مخلوقات اليوكاي الأسطورية، الأساطير الحضرية المخيفة، الطقوس الغامضة، الأماكن المسكونة، وحتى التحف الأثرية التي تحمل سراً يتحدى المنطق.
في هذه الجولة الماورائية، سنغوص في أعمق زوايا هذا العالم: مخلوقات اليوكاي الأسطورية، الأساطير الحضرية المخيفة، الطقوس الغامضة، الأماكن المسكونة، وحتى التحف الأثرية التي تحمل سراً يتحدى المنطق.
عوالم اليوكاي والكائنات الأسطورية
كلمة يوكاي (Yōkai) في الثقافة اليابانية تعني "الكائنات الغريبة"، وهي مخلوقات غامضة تتراوح بين الأرواح الخيرة والشريرة، وقد تكون حيوانات متحولة، أو بشراً أصابتهم لعنة، أو حتى ظواهر طبيعية مُجسدة ، تشبه إلى حد ما فكرة "الجن" في الثقافة العربية، لكنها أكثر تنوعاً من حيث الأشكال والقدرات ، من بين مئات كائنات اليوكاي، هناك من حفروا أسماءهم في ذاكرة اليابانيين:
1- الأرواح التائهة (Yūrei)
اليوري هي فئة فرعية من اليوكاي، لكنها أكثر ارتباطاً بالبشر، هي أرواح لم تُكرّم بطقوس دفن مناسبة أو ماتت بحقد وظلم، وهي تبدو بوجه شاحب، شعر أسود طويل، كيمونو أبيض، بدون أقدام ، تروى عنها قصة "أوتسويو" وهي امرأة أحبها رجل ليكتشف لاحقاً أنها شبح ، إقرأ المزيد عن روح العاشقة العالقة في أساطير شرق آسيا.
2- كابا (Kappa)
كائن برمائي صغير الحجم، يشبه مزيجاً بين السلحفاة والإنسان، له منقار صغير وحوض ماء في قمة رأسه يمثل مصدر قوته ، يُقال إن الكابا يعيش في الأنهار والبرك، وغالباً ما يُحذر الأطفال من اللعب قرب المياه خوفاً من أن يسحبهم الكابا إلى الأعماق.
يُعرف عن الكابا حبه للمقالب، لكنه قد يصبح خطيراً إذا غضب، إذ يهاجم الماشية أو حتى البشر ، ومع ذلك يُقال إنه إذا انحنى الإنسان أمامه، يرد الكابا التحية بانحناءة، ما يؤدي إلى سكب ماء رأسه وفقدانه لقوته، فيصبح ضعيفاً ، يجسد الكابا علاقة الإنسان بالماء كعنصر للحياة والموت معاً.كما أن قصصه خدمت غرضاً تربويًا لتحذير الأطفال من الغرق.
3- المرأة العنكبوت (Jorōgumo)
في النهار، تبدو جوروجامو كأجمل نساء البلدة، لكن عند حلول الليل تتحول إلى عنكبوت ضخم يغزل شباكه حول ضحاياه ، تحكي إحدى الأساطير أن جوروجامو كانت تعيش قرب شلالات جبلية، وكانت تغوي الرجال المارين بجمالها، ثم تسحرهم بالموسيقى قبل أن تفترسهم ، حتى اليوم، هناك شلال في محافظة غيفو يسمى "شلال المرأة العنكبوت" ، تجسد جوروجامو الخداع والشهوة، وتحذر من الانبهار بالمظاهر الجميلة التي تخفي خطراً قاتلاً.
4- ذات الرقبة المطاطية (Rokurokubi)
امرأة طبيعية في النهار، لكن رقبتها تمتد بشكل غير طبيعي في الليل، فتتجسس على الآخرين أو تهاجمهم ، يُعتقد أن هذه اللعنة تصيب النساء اللواتي يرتكبن خطايا كبرى أو يحملن ضغينة عميقة ، وهي تدل على النفاق؛ شخص يبدو عادياً أمام الناس لكنه يخفي طبيعة خفية مرعبة.
5- "ملك الموت" الياباني (Shinigami)
كائن غامض يُرافق الأرواح إلى العالم الآخر، يشبه البشر في الهيئة لكن وجهه شاحب رمادي كالجثث ، بعكس صورة "ملك الموت" في الثقافات الأخرى، شينيغامي لا يقتل ولا يعاقب، بل يعمل كدليل يرافق الأرواح في رحلتها النهائية ، ظهر بقوة في المانغا والأنمي الحديث مثل Death Note، لكن جذوره تمتد إلى النصوص البوذية القديمة.
6- عفاريت البيوت (Yanari)
في الليالي المظلمة، يسمع السكان أصوات خشخشة، اهتزازات في الجدران، أو ضحكات مكتومة ، تُعزى هذه الظواهر إلى كائنات صغيرة تُدعى "ياناري"، وهي أشبه بـ"عفاريت المنزل" في ثقافات أخرى أو "عمار المكان" في ثقافة الجن العربية ، قد تكون انعكاساً للقلق الأسري أو التوتر، أو نتيجة أرواح لم تُكرم كما يجب في طقوس الدفن.
7- الأرواح الساكنة في الجماد (Tsukumogami)
يؤمن اليابانيون بأن الأشياء، خصوصاً الدمى أو الأدوات القديمة، قد تكتسب روحاً إذا تُركت دون اهتمام لفترة طويلة ، قد تتحول هذه الأشياء إلى كائنات واعية قادرة على الانتقام من البشر الذين أهملوها، هذا الاعتقاد يفسر قصص الدمى المسكونة الشهيرة، مثل دمية "أوكوكو" التي ما زالت تُعرض في أحد المعابد ، إقرأ عن معتقد مشابه يدعى معتقد التولبا.
الطقوس والممارسات الغامضة
دمية اللعنة (Wara Ningyo)
دمية قش تُستخدم في طقوس مشابهة لـ الفودو، حيث تُغرز فيها مسامير وتُعلق على شجرة في منتصف الليل قرب معبد ، والغرض منها إلحاق الأذى بالشخص المستهدف من اللعنة ، يجب أن يتم الطقس دون أن يراه أحد وإلا انعكست اللعنة على الساحر نفسه ، إقرأ المزيد عن دمى السحر.
طقوس المومياءات الغامضة في اليابان
في بعض المعابد اليابانية، وُجدت مومياءات لرهبان مارسوا طقساً قاسياً يُعرف باسم سوكونشينبوتسو (Sokushinbutsu)، يهدف لبلوغ التنوير المطلق عبر تحنيط الذات حياً.
يمر الراهب بمراحل تستمر أكثر من خمس سنوات، يبدأها بحمية صارمة تعتمد على الجذور والمكسرات لتجفيف جسده من الدهون والسوائل، ثم يتناول شاياً ساماً من شجرة الأوروشي لقتل البكتيريا والحشرات بعد موته ، في المرحلة الأخيرة، يدفن نفسه في غرفة صغيرة مع أنبوب للتنفس وجرس يرن يومياً، وعند توقف الجرس يُغلق القبر ويُترك الجسد ليكمل التحنيط الطبيعي ، بعد ثلاث سنوات، إذا وُجد الجسد محفوظاً، يُعرض في المعبد كرمز للتنوير والقداسة.
كما تحتفظ بعض المعابد بمومياءات لكائنات غريبة مثل كابّا وتينغو، يعتقد البعض أنها بقايا كائنات ماورائية، بينما يرجح العلماء أنها مركبات مصنوعة من بقايا بشرية وحيوانية.
هذه المومياءات ما زالت تثير جدلاً بين من يراها دليلاً على قوة الروح، ومن يفسرها كظاهرة دينية أو أسطورية غامضة ، إقرأ المزيد عن مومياوات غامضة في متاحف اليابان.
طقس المئة قصة شبح (Hyakumonogatari Kaidankai)
نشأ هذا الطقس في عصر الساموراي، حيث كان المحاربون يجتمعون ليلاً لاختبار شجاعتهم وقوة قلوبهم. تُضاء مئة شمعة في الغرفة، ويروي كل مشارك قصة مرعبة من الأساطير أو تجاربه الشخصية، ثم يطفئ شمعة. ومع تلاشي الضوء تدريجياً يزداد التوتر والرعب، ويُقال إنه عند إطفاء الشمعة الأخيرة تتجسد الأرواح فعلًا. كان الساموراي يعتبرون إكمال الطقس دليلاً على الشجاعة، بينما حذّر الكهنة البوذيون من مخاطره، لأنه قد يفتح باباً لعالم الأرواح يصعب إغلاقه. إقرأ المزيد عن طقس قصة المئة شبح عند الساموراي.
زفاف الدمية
نشأ هذا اطقس بعد الحرب العالمية الثانية عندما قُتل جنود قبل زفافهم، فابتكر أهلهم طقساً يزوجونهم فيه من "عروس دمية" ترمز لروحهم ، يُقام في معبد بوذي حيث توضع الدمية بجوار صورة الجندي في صندوق مقدس، ثم تُتلى صلوات خاصة والغرض من هذا الطقس منح الجندي راحة روحية ومكانة في العالم الآخر. إقرأ المزيد عن زفاف الموتى.
تماثيل دوغو (Dogū)
منحوتات طينية ، عثر على عدد ضخم منها حتى 18000 قطعة ، تعود لعصر جومون (10000 – 300 قبل الميلاد)، وهي ذات عيون كبيرة وأجسام غريبة ، ولا يُعلم الغرض منها قد تكون أدوات طقسية لعبادة آلهة الخصوبة. البعض يرى فيها تمثيل لكائنات فضائية زارت الأرض ، تُعرض اليوم في متاحف اليابان، وما زال العلماء في حيرة من أمرها.
أرقام النحس في اليابان
في الثقافة اليابانية، تحمل بعض الأرقام دلالات مشؤومة، أبرزها الرقم 4 (Shi) والرقم 9 (Ku) ، يُنطق الرقم 4 بـ"شي"، وهو نفس لفظ كلمة "موت" (死)، ما جعله رمزاً للفناء. لذلك تُحذف الغرف أو الطوابق التي تحمل هذا الرقم في المستشفيات والفنادق، كما يُتجنب تقديم الهدايا بأربع قطع.
أما الرقم 9، فيُنطق بـ"كو"، وهو مشابه لكلمة (苦) التي تعني "عذاب" أو "معاناة"، فيُرتبط بالمرض والحزن، ويُحظر استخدامه في غرف الولادة وغرف المرضى ، هذا الرهاب يُعرف عالمياً بـ"تترافوبيا"، لكنه في اليابان يمتد ليشمل الرقمين معاً.
حتى شركات الطيران والسيارات تتجنب هذين الرقمين، بينما يحرص الناس على عدم إقامة مناسبات مهمة في يوم يوافق الرابع أو التاسع من الشهر ، ورغم التقدم التكنولوجي، يبقى هذا الاعتقاد حياً بقوة، ويظهر في الحياة اليومية كجزء من الثقافة اليابانية العريقة.
الأماكن المسكونة في اليابان
1- قلعة هيميجي (Himeji Castle)
تُعد من أجمل القلاع التاريخية في اليابان، لكنها تخفي خلف جمالها أسطورة مرعبة. يقال إن روح خادمة تُدعى أوكوكو تجوب أروقتها باكية، بعد أن أُعدمت ظلمًا ورُميت جثتها في بئر داخل القلعة. حتى اليوم، يسمع الزوار صرخاتها وهمساتها قرب البئر، ويرى بعضهم ظلها يعبر الممرات ليلًا، مما جعل القلعة وجهة لعشاق قصص الأشباح والأساطير.
2- غابة آوكيغاهارا
تعد من أكثر الأماكن رعباً في اليابان، تقع عند سفح جبل فوجي وتشتهر بكثافة أشجارها التي تحجب ضوء الشمس، ما يخلق جواً خانقاً وغامضاً. عُرفت عالمياً باسم "غابة الانتحار" لكثرة حالات الانتحار التي تحدث فيها سنوياً، إذ يختارها الكثيرون لمغادرة الحياة بهدوء. تنتشر فيها ظواهر غريبة مثل فقدان إشارات أجهزة الملاحة، وسماع صرخات أو همسات، ورؤية ظلال تتحرك بين الأشجار، ويُعتقد أن أرواح المنتحرين التائهة تجوب المكان ولا تجد الراحة. إقرأ المزيد عن غابة أوكيغاهارا المسكونة.
3- نفق سنداغايا في طوكيو
نفق قديم يربط بين أحياء طوكيو، ويشتهر بين السائقين بقصص مرعبة. يروون أنهم يرون وجوهاً متجسدة تصرخ على جدرانه، أو انعكاس شبح يجلس في المقعد الخلفي يظهر في المرآة فجأة ثم يختفي. بعض سائقي سيارات الأجرة تجنبوا المرور به تماماً، لاعتقادهم أنه بوابة لعالم الأرواح، خاصة مع حوادث السير الغامضة التي تقع داخله دون سبب واضح.
الأساطير الحضرية اليابانية
اليابان المعاصرة تزخر بأساطير حضرية حديثة، تنتشر في المدارس، المراحيض العامة، وحتى الإنترنت، لتصبح مادة خصبة للرعب الشعبي.
1- لعبة الغميضة المميتة (Hitori Kakurenbo)
يتم حشو دمية بالأرز وتُخاط بخيوط حمراء، ثم تُستدعى روح عبر طقوس خاصة لتتلبس الدمية يبدأ الشخص اللعب وكأنه في مباراة غميضة مع الروح المستحضرة ، يُقال إن الروح قد لا تعود لعالمها بسهولة، ما يترك الدمية مسكونة وخطيرة. إقرأ المزيد عن طقوس لعبة الغميضة اليابانية.
2- شبح المرحاض الأحمر (Aka Manto)
شبح يرتدي عباءة حمراء يظهر في الحمامات العامة، خصوصاً في المدارس ، يطرح على الضحية سؤالاً: "هل تريد الورق الأحمر أم الأزرق ؟ "، وأي إجابة خاطئة تؤدي لمصير مروع ، والمغزى من هذه الأسطورة هو أن الخيار الخاطئ في الحياة قد يكون قاتلاً، كما يعكس الخوف من الأماكن المظلمة والمنعزلة ، إقرأ المزيد عن شبح المرحاض أكامانتو.
3- المرأة ذات الفم الممزق (Kuchisake-Onna)
امرأة جميلة ترتدي قناعاً جراحياً تسأل المارة: "هل أنا جميلة؟"، وإذا أجابوا بـ"لا"، تقتلهم، وإن قالوا "نعم"، تزيل القناع لتكشف فماً ممزقاً من الأذن للأذن ثم تقتلهم ، والمغزى هنا هو الخوف من الخيانة والجمال الزائف، انتشر صدى الأسطورة خصوصاً في سبعينيات القرن الماضي ، إقرأ المزيد عن كوشيساكي أونا .
4- أشباح تركب سيارات الأجرة
تكررت روايات عن ركاب أشباح يطلبون وجهة محددة، لكن عند الوصول يختفون تاركين المقعد فارغاً ، بعض السائقين وجدوا المال في المقعد بعد اختفاء الشبح. إقرأ المزيد عن تاكسي طوكيو وشبح المقبرة.
أرض لا تفارقها الأرواح
اليابان ليست مجرد أرخبيل من الجزر، بل هي عالم فريد حيث الأساطير تتنفس في قلب المدن الحديثة، وحيث كل شجرة أو معبد قد يكون موطناً لروح قديمة.
هذه الجولة لم تلمس سوى جزء بسيط من هذا البحر العميق من الغموض، الذي يجعل اليابان إحدى أغنى الثقافات الماورائية في العالم، ومقصداً للباحثين عن الحقيقة... أو عن الرعب.
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .