18 سبتمبر 2025

الفالكيريز : عذارى الحرب في أساطير الفايكنغ

أسطورة الفالكيريز - الفايكنغ
إعداد : كمال غزال
في أعماق الأساطير الإسكندنافية التي ازدهرت بين قبائل الفايكنغ والشعوب الجرمانية الشمالية، تتجلى صورة الفالكيريز Valkyries: محاربات سماويات جميلات، يهبطن من عالم الآلهة لانتقاء أرواح المحاربين الشجعان الذين يسقطون في ساحات المعارك، فينقلنهم إلى قاعة المجد المعروفة بـ فالهالا Valhallaحيث يقيم الإله أودين Odin ، لكن وراء هذا المشهد البطولي المهيب، تختبئ دلالات أعمق تتعلق بعلاقة الإنسان بالموت والبطولة.


من هن الفالكيريز ؟

كلمة Valkyrie مشتقة من اللغة النوردية القديمة "valkyrja"، وتعني "التي تختار القتلى" ، وصفتهن الملاحم النوردية (Sagas) بأنهن مزيج بين الرقة الأنثوية والقوة الإلهية، وغالباً ما يظهرن ممتطيات جياداً مجنحة أو يرتدين دروعاً تلمع كالنجوم، يحملن الرماح ويقودن أرواح المحاربين إلى العالم الآخر ، يقال إن عددهن كان تسعاً في الأصل، ثم توسع لاحقاً في بعض الروايات إلى عشرات، ومن أشهر أسمائهن: بريونهيلدر (Brynhildr) ، وسكولد (Skuld) التي ترتبط بمفهوم القدر والمستقبل  وغوندر (Gondul) وهيرفيور (Hervör).

دورهن في ميثولوجيا الفايكنغ

الفالكيريز لسن مجرد "حاملات أرواح"، بل لهن دور محوري في تحديد مصائر المعارك ، ففي بعض الملاحم، يظهرن كحليفات للبشر، يمنحن النصر لقادة معينين بناء على إرادة الإله أودين، بينما في روايات أخرى قد يصبحن مصدر شؤم وهزيمة، إذ يتركن المحاربين لمصيرهم القاتل ، وهذا يعكس نظرة الفايكنغ الحتمية إلى القدر، حيث تُحسم المعركة قبل أن تبدأ، لكن الإنسان يظل يقاتل بشجاعة ليثبت نفسه أمام الآلهة.




التقاطع مع الثقافات السلتية

ثقافة الفايكنغ لم تنشأ في فراغ؛ فقد تداخلت مع ثقافات شعوب الشمال والغرب، خصوصاً الثقافة السلتية في بريطانيا وإيرلندا ، تشير بعض الدراسات إلى أن الفالكيريز تشبه إلى حد كبير البانشي (Banshee) في الميثولوجيا السلتية، وهي روح أنثوية تنذر بالموت ، لكن الفرق أن البانشي تصرخ معلنة اقتراب النهاية بينما الفالكيريز يخترن المحاربين ويقودنهم إلى حياة خالدة في عالم آخر ، هذا التداخل يعكس تبادل الأساطير بين الشعوب عبر التجارة، الغزو، والزواج المختلط بين القبائل.

رمزية الفالكيريز: منظور نفسي

من زاوية التحليل النفسي، يمكن النظر إلى الفالكيريز بوصفهن رمزاً لعلاقة الإنسان بالموت والبطولة.

- يرى كارل يونغ، عالم النفس التحليلي أن ظهور محاربات سماويات يعكس الأنيما (Anima)، أي الجانب الأنثوي في لاوعي الرجل، الذي يظهر في لحظات الخطر والانتقال.

- اختيارهن لأرواح "الأفضل" من المحاربين قد يمثل حاجة الإنسان لإضفاء معنى على الموت، بحيث لا يكون النهاية عبثية، بل جزءاً من مصير عظيم.

- كما أن ارتباط الفالكيريز بالجمال والقوة يجسد ازدواجية الموت في المخيلة الجمعية، فهو مخيف لكنه أيضاً طريق إلى المجد والخلود.

الجذور الاجتماعية للأسطورة

من منظور أنثروبولوجي، تعكس أسطورة الفالكيريز النظام الاجتماعي لشعوب الفايكنغ :

تمجيد المحارب

الفايكنغ كانوا مجتمعاً حربياً، حيث تُقاس قيمة الفرد بمهارته في القتال، فجاءت الفالكيريز كرمز للمكافأة النهائية للمحارب المثالي.

المرأة في دور الموجه

على الرغم ندرة مشاركة النساء في المعارك، إلا أن الفالكيريز يقدمن صورة بديلة تمنح المرأة سلطة على عالم ما بعد الموت، ما يوازن الدور الذكوري المهيمن في الحياة اليومية.

الطقوس الدينية

بعض المؤرخين يرون أن الفالكيريز قد يكن امتداداً لكاهنات قديمات كن يقدن طقوس الحرب، ثم تحولن مع الزمن إلى شخصيات أسطورية.

الفالكيريز في الأدب والفنون

ظهرت الفالكيريز بقوة في الأدب والفنون الأوروبية ، في القرن التاسع عشر، استخدم ريتشارد فاغنر شخصياتهن في أوبراه الشهيرة "حلقة النيبيلونغ" (The Ring Cycle)، حيث أصبحت مقطوعة "رحلة الفالكيريز" (Ride of the Valkyries) رمزاً موسيقياً للعظمة والبطولة ، وفي أفلام مارفل من خلال شخصية Valkyrie.


الفالكيريز في ألعاب الفيديو

ظهرت أسطورة الفالكيريز (Valkyries) بقوة في عالم ألعاب الفيديو، خصوصاً تلك المستوحاة من الميثولوجيا النوردية. أبرزها لعبة God of War (2018)، حيث يواجه اللاعب تسع فالكيريز في معارك تعد من أصعب التحديات، وصولاً إلى ملكتهن  سيغرون Sigrun، مع عودتهن بدور موسع في God of War Ragnarök (2022). كما قدمت لعبة Assassin's Creed Valhalla الفالكيريز ككائنات تتحكم بمصير المحاربين في رؤى أسطورية. 


وهناك سلسلة Valkyrie Profile التي تركز كلياً على محاربات السماء وجمع أرواح المحاربين استعداداً لـ Ragnarök. حتى الألعاب اليابانية مثل Final Fantasy وSmite استلهمت صورتهن كمحاربات سماويات .

تكمن جاذبية الفالكيريز  في مزيج القوة الرمزية والجمال البصري، ما جعلها رمزاً خالداً يربط بين عالم الأسطورة وتجربة اللعب الحديثة.


ملائكة المعارك في التراث الإسلامي

نجد فكرة مشابهة لأسطورة الفالكيريز، لكنها تحمل بُعداً روحياً صافياً بعيداً عن الطابع الوثني ، يتمثل ذلك في الملائكة التي تُرسل لنصرة المؤمنين في المعارك، كما ورد في القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد خصوصاً في غزوة بدر، حيث أنزل الله تعالى ملائكة تقاتل مع المسلمين وتثبّت قلوبهم ، قال الله تعالى في سورة آل عمران (آية 124-125): "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ" ، ثم قال: "بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ".

الملائكة هنا تمثل العون الإلهي الذي يمنح المقاتلين طمأنينة، ويغرس في نفوسهم الثقة والشجاعة ، مثلما كانت الفالكيريز تمنح المحارب النوردي معنى للموت في القتال، فإن فكرة الملائكة في الإسلام تمنح المؤمن معنى للنصر والقتال دفاعاً عن الحق، لكن مع فارق أن الغاية هنا روحية وأخلاقية، وليست مجرد مجد دنيوي.

الفالكيريز تختار أرواح المحاربين بعد موتهم، بينما الملائكة في الإسلام تشارك في المعركة فعلياً، وهي مخلوقات نورانية لا يُرى أثرها إلا بعين الإيمان، ويكون دورها تثبيت القلوب ونصرة المظلوم.

وختاماً، الفالكيريز لسن مجرد أسطورة عن محاربات سماويات، بل هن نتاج ثقافة عاشت بين العنف والجمال، بين البحر والجليد، بين الحياة والموت ، دراستهن تكشف الكثير عن الإنسانية في أعمق مستوياتها: حاجتنا للرموز، محاولاتنا لفهم القدر، ورغبتنا في أن نجد معنى حتى في لحظات الهزيمة ، فكما اختارت الفالكيريز أرواح المحاربين، تختار الأساطير نفسها أن تبقى خالدة، تلهم الأجيال، وتكشف عن خفايا النفس البشرية.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ